ما لم يذكره الخليل النحوي!! / أحمدو ولد بزيد

رب مسجد الجامعة الإسلامية في كولالمبور، التقيت خلال سنة فائتة طلابا موريتانيين، تبادلنا التحية ومجاملاتها، ولما افترقنا، قلت للأخ الأستاذ إبراهيم ولد محمد يحظيه: لم أعرف من هؤلاء الفتية غير واحد، وأظنه من أسرة أهل أنحوي، فسألني كيف عرفته؟ قلت: طريقة تحيته عليها وسم محاسن أخلاق أهله، كما قال الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا:

 

وذا كلام عند كل عاقل *** يبدو عليه وسم أهل العاقل

 

تذكرت هذا بعد انفتالي قبل قليل من مشاهدة برنامج الصفحة الأخيرة مع الأستاذ الخليل النحوي. فتلك أقدام بعضها من بعض، والمنبت الطيب لا ينبت إلا طيبا، والطباع تسرق الطباع.

 

قل أن أتابع من برامج التلفزيون الموريتاني، غير برنامج "الصفحة الأخيرة" وهو برنامج ثري فوائدي، ومن ميمون طالعه أن عهد به إلى الأخ الدكتور الشيخ سيدي عبدالله الذي قام على تقديمه أجود قيام! ولا عجب.

 

ولعلي قد أبنت شيئا من ذلك في مقال كتبته من ذي قبل حول استضافة البرنامج للشاعر محمد الحافظ ولد أحمدو.

 

لقد استضاف البرنامج العديد من الشخصيات الوطنية، فمنهم البعض زاد - خلال استضافته - من رصيد إكباره في نفوس الناس أضعاف الذي كان عنده، ومن أولئك الخليل النحوى.

 

كان مستوى حديثه عاليا في جميع الحلقات، طبعه الأدب، وصبغته الرزانة، والتؤدة، وزانه أسلوبه السردي الأخاذ النازع إلى مجانبة هجر القول، الوازع من زلل الكلام وخطله.

 

لقد وفق الخليل في ترشيد عباراته، وعمل على سوق معانيه إلى مواطنها الدالة.

 

وفي برنامج مثل هذا، يتوسل سبر أغوار حرج المراحل، استوفى الخليل الرواية والنقل حقهما دون تصحيف ولا تجريح ولا إخلال.

 

في حلقة الليلة استعرض الخليل صنوفا من التعذيب الفظيع الذي تعرض له البعثيون أيام نظام هيداله، فكان ميالا في كل فقرة إلى استخدام لغة العفو وكظم الغيظ، رغم أن ما رواه يصعب تجاوزه لفظاعته، وإيغاله في الوحشية، وامتهانه لكرامة الإنسان، لكن النفوس الكبيرة كبيرة.

 

في كلامه حول فظاعات السجن كان الخليل أحرص على التماس العذر لمن ساموه سوء المعاملة، من تبيانه تفاصيل وجزئيات ما مورس عليه وزملائه من تعذيب، بل أكثر من ذلك ظل يكرر احترامه لــ "فرقة التعذيب" التي رجا أن تكون "ناجية"

 

لم يذهب الخليل مذهب البعض في "صفحاته الأخيرة" في كتابة التاريخ من لا شيء، فقد كان يتحرى الصدق في مروياته، مجانبا الإدعاء، وحيازة ما لم يفعل، فلا يحب أن يُحمد بذلك.

 

لكن الذي لم يذكره الخليل في معرض مذكوراته عن سجانيه، هو ما جرى بينه مع أحدهم في تونس.

 

رُوي لي - والعهدة على الراوي -  أن الخليل أيام كان مقيما في تونس التقى في مطارها بأحد سجانيه، قدم للعلاج، فما فاجأ الخليل إلا السجان، وما فجأ الأخير إلا الخليل يرحب به، ويريده على النزول عنده واستضافته، فاستولى الخجل على الرجل وتملكه الحرج، إذ لات حين ندم، ولم يكن الرجل من سجاني للخليل فحسب، بل كان من أشدهم عليه حينذاك.

 

لم يقبل الخليل أن يفلت منه السجان مثلما كان هو يفعل به في غيابات السجن، ولكنها أضداد الجزاء، وفروق منابت الرجال!!

 

قال الراوي: حرص الخليل - طوال مقام سجانه معه في تونس - على أن لا يبخل عليه بحسن الوفادة، وكرم الضيافة، وجزيل الرفادة، وكان الخليل أيانها في وضع قوة، وضيفه في حال ضعف، والغريب أن الخليل حرص كذلك أن لا تأتي مرحلة السجن في شعاب أحاديثهما طوال فترة علاج الرجل، وما رأى الرجل يوما في وجه الخليل شيئا من شماتة، وتلك لعمر الله شمائل أولي الأحلام والنهى.

ودعه الخليل، وما ضره ما فعل!! واستمر التاريخ يكتب والناس في غفلة عن كتابته معرضون.

طبعا لن يذكر الخليل هذا في البرنامج، بل قد يتحاشاه إن سئل عنه، إذ محاسن الطباع ذابة لأهلها عن ذكر محاسن فَعالهم.

 

اثنين, 27/07/2015 - 11:10

          ​