الفضة والذهب

النوع المثابر والجاد من الناس هو الذي يستحق الاحترام فهو النوع المقنع والمؤثر الذي يعرف متى يتكلم ومتى يصمت، فإذا تكلم أصاب وإذا صمت كان بليغا حتى في صمته وهو الذي يقف بالضد تماما من البعض الذي يحب أن يتكلم بمناسبة أو من دون مناسبة، هذا النوع من الناس لا يمثل إلا درجة عالية من الخواء ويدل على فراغ مطلق، ولذا قال الأقدمون إذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب.

في المجالس العامة والخاصة، في المؤتمرات والمهرجانات والندوات تطرح أمور عامة أو متخصصة وكل إنسان يتحدث دائما في مجال تخصصه أو في مجالات يلم بها إلماما كافيا يؤهله للحديث فيها بشكل مقنع، فليس من المحتم على الأديب مثلا أن يتحدث في ندوة علمية تناقش أسباب هجرة سمك السلمون من ذاك المحيط إلى غيره في فصل معين وليس على مدرس الرياضيات عيب إن لم يتحدث عن العلاقة بين الشاعر الإنكليزي ملتون وأبي العلاء المعري ولا يضر طبيب الأسنان شيء إن لم يناقش في موضوع متخصص في الهندسة الوراثية وهكذا فعلى الإنسان أن يتحدث على قدر علمه ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

إن من حق الجميع أن يتحدثوا كما يشاؤون فذلك حق ضمنه الشرع والقانون والعرف الاجتماعي، ولكن ضمن مساقات محددة سلفا من أهمها أن يضيف شيئا جديدا إلى موضوع الندوة أو الحديث أو الاجتماع وأن يغني الحاضرين بما يقول، أما أن يطلب أحدهم الحديث في موضوع لا يعرف عنه شيئا ثم يروح يردد عبارات مثل: في الحقيقة.. أو في الواقع.. أو تعقيبا على ما ذكره الأخ.. أو فضلا عما ذكره الأستاذ.. أو.. أو فذلك هدر لوقت الجميع وخير منه الصمت وأبلغ.

إن الاجتماعات والندوات والمؤتمرات هي مناخات من أجل تلاقح الأفكار وتفاعل الآراء واستنباط خلاصاتها التي يفيد منها المؤتمرون والمجتمعون وهي لذلك تحرص أشد الحرص على الوقت الذي يجب أن يكرس لها، لا أن يهدر بهذا الشكل أو ذاك بترديد العبارات الجاهزة والمستهلكة أو ترديد ما قاله الآخرون.

اذكر أن أحدهم رفع يده طالبا الكلام في ندوة ما فأذن له فقام إلى المنصة نظر في وجوه الحاضرين وابتسم لهم ثم مد يده وعدل تسريحة شعره وربطة عنقه ثم صفى حنجرته ثم قرأ الديباجة المعتادة كاملة ثم عقب وأضاف وأثنى على المتحدثين الذين سبقوه وكرر أقوالهم وفسرها بما يستطيع. ثم هاج وماج ولكنه توقف عن الكلام فجأة مثل محرك فقد قدرته على الحركة ولم يستطع إكمال جملة ظلت معلقة لا تريد الخروج.. نظر في وجوه الحاضرين يمينا ويسارا، استنجد بهم.. لكن أحدا منهم  لم يسعفه حتى بنظرة مواساة.. بدا عليه الاضطراب وأسقط في يده.. ولم يدر ماذا هو فاعل ومن دون أن يدري صفق لنفسه وغادر المنصة بصمت دون أن يعبأ به أحد.

القاص والروائي العراقي عبد عون الروضان

جمعة, 31/07/2015 - 09:49

          ​