الانتماء الثقافي

ظلت الثقافة الوطنية تتحقق دائما من خلال اللغة العربية الذي يشارك كل المثقفين العرب على اختلاف ألوانهم في الإنتاج بواسطتها. فاللغة العربية هي «اللغة الرسمية» لكل الأقطار العربية، وبذلك نعتبر كل تلك الإنتاجات داخلة بالقوة وبالفعل في إطار «الثقافة العربية» الحديثة. لكننا نجد، لظروف اجتماعية وثقافية وتاريخية خاصة، العديد من المثقفين ممن هم من أصول عربية أو غير عربية، وينتمون تاريخيا إلى أحد الأقطار العربية، يهاجرون إلى الكتابة بلغات غير اللغة العربية (الفرنسية ـ الإنكليزية). فكيف نتعامل مع عطاءات هؤلاء المثقفين، سواء في مجال الإبداع أو الفكر؟ وكيف يتحدد انتماؤهم الثقافي؟ أإلى بلاد المهجر؟ أم إلى الأصول التي ينتمون إليها؟في بدايات القرن الماضي، هاجر العديد من العرب الشوام إلى إحدى الأمريكتين، وساهموا في تشكيل فضاء ثقافي ظل مرتبطا ارتباطا وثيقا بثقافتهم الأصلية، فأصدروا الصحف، وأسسوا دورا للنشر، وأبدعوا إنتاجاتهم المختلفة باللغة العربية، فاعتبروا بذلك جزءا أساسيا من الثقافة العربية، وكل الكتابات التي اهتمت بتاريخ الأدب، مثلا، أدرجت الأدب الهجري في إطار الأدب العربي الحديث.مع منتصف القرن، بدأت تبرز ظاهرة الكتابة باللغة الفرنسية في المغرب العربي، ومع تنامي الهجرات، والاستقرار في بلاد «الغربة»، نبغ كتاب ومثقفون وعلماء من مختلف البلاد العربية، في مختلف المهاجر، وصاروا يكتبون بلغات الأوطان التي هاجروا إليها (فرنسية، إنكليزية، هولندية، إسبانية…) ويساهمون إبداعيا وفكريا في الإنتاج وفق الواقع الذي يعيشون فيه. وهنا بدأ يطرح السؤال: هل يمكننا اعتبار، على سبيل التمثيل فقط، إدوارد سعيد كاتبا فلسطينيا أم عربيا أم أمريكيا؟ ويمكننا طرح السؤال نفسه، عن محمد خير الدين: هل هو كاتب مغربي؟ أم أمازيغي؟ أم فرنسي؟ علما بأن هذين الكاتبين عندما نطلع على الأنطولوجيات، أو الكتابات الأدبية التاريخية، الأمريكية أو الفرنسية نجدها تدرج أمثالهما ضمن «النقد الأمريكي»، أو ضمن «الأدب الفرنسي» أو الفرنكفوني؟ إنه سؤال الانتماء الثقافي؟بماذا يتحدد الانتماء الثقافي للمثقف كيفما كان مجال إبداعه أو تفكيره؟ هل بواسطة اللغة التي يكتب بها بغض النظر عن انتمائه القطري، أو العرقي؟ أم أن هذا الانتماء يتحدد في ضوء العرق والقطر، من دون اعتبار للغة التي يكتب بها؟ أم أن الانتماء الثقافي يتعالى على القطر والعرق والطائفة واللغة؟ أم أنه أخيرا يتحقق من خلال انتماءات متعددة (عامة وخاصة)، تتنوع بتنوع الأصول والمشارب التي ينتمي إليها المثقف أو ينخرط فيها؟ أو بحسب القضايا التي يتناولها؟ما كان لهذا النوع من الأسئلة أن يطرح لولا التطور الذي طرأ منذ أواخر القرن الماضي مع بداية تضخم الحديث عن الأنا والآخر، والهوية الثقافية، والذاكرة الجماعية، والتنوع الثقافي، على المستوى الفكري. وبداية ظهور النزعات المختلفة في الوطن العربي التي تطالب بحقوقها الثقافية والعرقية واللغوية والطائفية، على المستوى السياسي.عندما نعود إلى التاريخ العربي ـ الإسلامي لا نجد فرقا بين امرئ القيس والسموأل، أو بين جرير والأخطل أو ابن الرومي وأبي تمام، أو الكندي أو ابن رشد وابن سينا وابن ميمون، أو بين الجرجاني والقرطاجني، إنهم جميعا، وإن اختلفت أصولهم وأعراقهم ودياناتهم، كانوا يؤثثون الفضاء الثقافي العربي ـ الإسلامي، وينخرطون في الإضافة إليه وإغنائه. صحيح كانت اللغة العربية لغة الكتابة في ذلك العصر.لكن ميلاد الأقطار الحديثة، وتنامي الهويات، أدى إلى تعزيز الهويات القطرية، وتحديد الانتماءات: فصار جلجاميش والمتنبي عراقيين، والمعري سوريا، وابن سينا فارسيا… بل أن إخواننا الأمازيغ عادوا إلى تاريخ ما قبل الإسلام، فعدوا القديس أوغستين، وأبوليوس.. وفي العصر الحديث محمد خير الدين أمازيغيين… وصارت الانتماءات تتحدد حسب العرق، أو الفضاء الجغرافي الذي ولدوا فيه، بغض النظر عن اللغة أو الثقافة التي كانوا يشتغلون في نطاقها، ويفكرون ضمن متخيلها وتاريخها.ما هو الآن انتماء المثقف الكردي، والأمازيغي والسرياني والقبطي والطوارقي، الذي يكتب بالعربية شعرا وسردا وفكرا؟ وبماذا نحدد انتماء الكتاب، من أحد أصول الأقطار العربية الذين ولدوا في المهجر، وتعلموا لغات أجنبية وكتبوا بها؟في المصنفات العربية القديمة، كانوا يترجمون للكاتب ويعرفونه من خلال تحديد محتده ومولده ونشأته وداره ومنزله (نزيل كذا). كما أنهم في التأريخ الثقافي للمدن، كانوا يتحدثون عمن ينتمي إلى المدينة، أو ولد بها، أو حل، أو مر بها. وكل ذلك إمعانا في تحقيق الانتماء الخاص بالكاتب في علاقته بالفضاء، وتأكيد صلاته برجالاتها وأخذه عنهم، أو استفادتهم منه، أي أن ذلك كان لغايات ثقافية محضة. أما الآن، فإن انتماء المثقف، لأنه صار ذا بعد سياسي، أمسى يتحدد وفق الأبعاد الإيديولوجية الخاصة التي يتم التركيز عليها لتثبيت هوية معينة، أو إعطائها شرعية ما.لا مراء في أن المثقف ابن بيئته، وثقافته ولغته. وهو لا يسهم في ثقافته الخاصة المتصلة بعرقه أو لغته الوطنية، إلا إذا كانت تتحقق في نطاق الثقافة الإنسانية. وهذا هو الانتماء الحقيقي: إنه يتجسد وطنيا لينفتح إنسانيا. ولهذا السبب أصبحت الليالي العربية تعد تراثا إنسانيا.

كاتب مغربي

سعيد يقطين

أربعاء, 05/08/2015 - 09:34

          ​