هل يتوسد الكتاب الإلكتروني مكان الكتاب المطبوع؟!

إشكالية إحلال الكتاب الإلكتروني محل الكتاب المطبوع تصطدم بعقبة كأداء، تجعل مناقشتها من الصعوبة بمكان؛ كون الأجيال المشغوفة بالكتاب المطبوع منحازة له، وهي تمارس الكتابة له وعنه، أما الجيل الجديد المتجه إلى الكتاب الإلكتروني-إن صحت هذه التسمية- تعمل في مجاله وتدور في رحاه؛ فتراها تتحمس له، ولا تكتب إلا عنه؛ إذن نحن أمام جيلين قد يكون بينهما هوة متسعة، وما من علاقة تربط بينهما؛ لذلك هذه القضية يعوزها جيل محنك قادر على أن تكون له رؤية مستقبلية، وجيل حديث قادر على ألا يقطع صلته بالماضي والتراث.

 

وثمة تساؤل يحيّر الجميع: هل انقضى عصر الكتاب المطبوع على الورق؟ وهل بدأ عصر جديد تعتمد فيه القراءة على الكمبيوتر فحسب؟ التساؤل من هذه الناحية يعتمد على ثقافة الصراع لا الحوار، والإقصاء لا التفاهم، والإبعاد لا التقارب؛ فلماذا لا نعمل على أن يعيش الكتابان معًا جنبًا إلى جنب، يعطي كلٌ منهما الآخر، دون صراع أو منافسة أو اصطدام أو حتى إقصاء؟!

لا نشكك في أن التقدم المذهل والمتسارع في مجال الحاسب الآلي والبرمجيات والإلكترونيات يجعلنا قبالة عصر حديث ومتطور، يثور على مطبعة جوتنبرج؛ لتعتمد القراءة من ثمّ على الشاشة الفضية الصغيرة، مبشرًا بانتهاء المكتبات العملاقة، وإن بقيت فسوف تصبح كتبها في حيز ضيق، توضع فيه أسطوانات مسجلة عليها آلاف الكتب، ويستطيع (القارئ) أن يتعامل معها في براعة ودقة، مستغنيًا عن الأوراق، مكتفيًا بما يمنحه إياه الحاسب الآلي، عارضًا المادة بشكل جديد، وبأسلوب يتفق مع هذا الجهاز، فضلًا عن استخدام السيناريو والرسوم؛ فقد يكون هذا التغيير -مثل أي تغيير- للأفضل أو للأسوأ.

فنحن نرفض أن يلغي هذا الجيل ما سبقه من أجيال ونقصي ملامحه ومفاهيمه؛ فلكل عصر ملامحه ومفاهيمه، ولا بد أن يكون هناك تواصل واستمرار ومساعدة ومناولة في إطار يضمن ديمومة الحركة الثقافية والاجتماعية برمتها، وعلى الرغم من هذه الثورة التقنية الكبرى وبروز الكتاب الإلكتروني مناطحًا غريمه المطبوع؛ إلا أنني أجزم بأن الكتاب الإلكتروني لن يمكن أن يحل محل الكتاب الورقي المطبوع؛ لكونه آلة تفتقد إلى التخاطب والتواصل، لن تعوّض معها متعة القراءة؛ إذ الكتاب الورقي معروف عنه التواصل والحميمية بينه وبين قارئه؛ فيستغرق الأخير معه ويستشعر رؤية المبدع، ويتسع خياله آفاقًا وأبعادًا أرحب؛ فهو الوسيلة المثلى لاستشعاره خيال المتلقي وتحفيزه نحو الإبداع. وهذا ليس انتقاصًا من دور الكتاب الإلكتروني الذي أتصور أنه له دور مهم جدًا باعتباره حافظًا للتراث العربي والإسلامي والإنساني، وهذا شيء مهم ومطلوب حاليًا؛ فبعد أن كنا نحتفظ بسجلات ومجلدات تملأ غرفًا ومستودعات، باستطاعتنا الآن حفظ (500) مليون مجلد على أسطوانة مدمجة واحدة. وعربيًا كما هو عالميًا، الكتاب الإلكتروني ما زال عاجزًا عن تقويض دور الكتاب الورقي الذي يمثّل أقدم وسيلة معرفية…

ولكن، ماذا عن المستقبل؟ في المستقبل يمكن لكل شيء أن يتغير، لكنّ أي تغيير عندنا نحن العرب يبقى في إطار عاداتنا وسلوكنا، وهذا ينطبق على علاقتنا مع الكتاب أيضًا؛ إذن الكتاب باقٍ، وهذه مسؤوليتنا كناشرين وكتَّاب ووزارات ومؤسسات معنية بالهم الثقافي والمعرفي.

ومهما تعددت وسائط المعرفة وأوعية القراءة ووسائل المعلومات فستظل هناك حاجة إلى الكتاب الورقي الذي سيظل متوجًا على قمة الهرم المعرفي، ومن الصعوبة بمكان أن يبعده أو يقصيه الكتاب الإلكتروني من مكانه أو يعيق مواصلة المسيرة في نشر المعرفة والوعي وتبادل الثقافات، ورصد الحضارات ومعطياتها الإنسانية. أجزم بذلك بالرغم من كل الدلائل والمؤشرات التي توالت من الدول الغربية عن اختفائه وإحلال الكتاب الإلكتروني مكانه!

وبالرغم من التبشير بأننا سنعيش قريبًا عالمًا بلا ورق ومكتبات بلا حوائط، وبالرغم مما وصل إليه عالمنا العربي من تطور في هذا المجال، حيث ينشر به سنويًا أكثر من (2000) كتاب إلكتروني جديد وأكثر من 100 ألف صفحة جديدة على الإنترنت؛ فإن الإحصاءات لا تعضد هذه التنبؤات والمؤشرات والدلائل. ففي العالم، هناك مليون كتاب ورقي يصدر سنويًا ويطبع منه مليار نسخة، بالإضافة إلى 5 ملايين دورية تصدر بأكثر من مليار نسخة، وفي العالم العربي وحده (140) صحيفة يومية تطبع منها (10) ملايين نسخة، وحتى في الدول الغربية وأمريكا التي تعد من أولى دول العالم في النشر الإلكتروني نجد أن هناك زيادة مطردة ومحمومة في ارتفاع أرقام المبيعات؛ حيث وصلت إلى أكثر من (60) بليون نسخة. ومن خلال تجاربنا ورصدنا نستطيع أن نؤكد أن الكتاب المطبوع ما زال الطلب عليه أكبر بنسبة أربعة أضعاف الكتاب الإلكتروني، وهذا الواقع مدعوم بتاريخ القراءة؛ حيث ما زال الكتاب أهم أداة للوصول إلى المعرفة والثقافة.

وإجمالًا، يمكن القول: إن الكتاب الإلكتروني هو حصيلة التقدم العلمي تفانيًا في السياق العام للتطور الإنساني، وما ينبغي علينا هو الاستفادة من هذا التقدم وتطويعه لخدمة أغراضنا المعرفية والعلمية والبحثية. ومع هذا، فإن مكانة الكتاب الورقي تبقى محفوظة؛لأن الكتاب لا يعوض رغم ما يقدمه الإنترنت والوسائل التقنية الحديثة من أدوات للبحث وتتيح السرعة في التناول والاستفادة من المعلومة. ومع كل ما يدور هنا وهناك في وطننا العربي من تعليقات وتخوفات من الزحف الخطير لهذا الجديد؛ فينبغي ألا تخيفنا التقنية، بل نحث أبناءنا على الأخذ بها وعلى النهل من القراءة أيضًا بتوفير كتب المطالعة، وأن نسهل عليهم سبل الذهاب إلى دور المكتبات والمعلومات والتثقيف والترفيه المفيد، جنبًا إلى جنب مع تعويدهم على حب الكتاب ونمد إليهم جسرًا عاطفيًا بينهما؛ لأن تربية الطفل والنشء على القراءة هي جزء أصيل من حماية التراث. فحينما نحقق ذلك؛ لا نخشى حينها على الطفل باتصاله بعالم المعلوماتية، وبالتالي تتبدد المخاوف وتصبح النظرة إلى التطور العلمي إيجابية وليس كما يراه البعض اليوم صراعًا بين قديم وجديد!

 

هشام يوسف

أربعاء, 19/08/2015 - 12:05

          ​