السِّياسَة من مَنظُور ثقَافيّ صــلاح بوســريف

في الثقافة العربية، كان الأدَبِيّ، أو الثقافي بصورة عامة، تابعاً لغيره من الخِطابات. لا يمكن حَصْر هذه التَّبَعِيَة في العصر الحديث، بل إنَّها جاءتنا من ماضي الثقافة العربية. فالشعر «الجاهلي»، لم يكن مُتَحرِّراً، في دلالته، من هيمنة الصِّراعات القَبَلِيَة، وانحياز كل شاعر لمحيطه ووسطه وبيئته التي كان ينتمي إليها. ولعلَّ في شعر حسَّان بن ثابت، والتباهي بهيمنة تغلب، كقبيلة عظيمة وواسعة الانتشار، على غيرها من القبائل، ما يفضح هذه العلاقة.

 

الشَّاعِر، بدوره، كان يُسَخِّر لسانَه لقبيلته، وكانت القبيلة، كما هو معروف، تحتفل بظهور شاعر فيها، بما يشي بأهمية الشِّعر كأداة للحرب والمواجهة.لم يخرج الدين على هذه القاعدة، رغم اعْتِراضِه على الشِّعر، أو على الشِّعر الذي بَقِيَ بعيداً عن الدِّين في رؤيته، وطبيعته الإيمانية، وإلاَّ كيف نُفَسِّر المكانة التي كانت لحسَّان بن ثابت عند الرسول، وعند المسلمين، قياساً بغيره ممن لم يُؤمِنُوا؟ولم تخرج المراحل التالية على هذه القاعدة، باستثناء ما تميَّزتْ به تجارب بعض الشُّعراء من مثل أبي نواس، الذي اختار ذاتَه، وانحاز لؤيته الخاصَّة للأشياء. وأيضاً تجربة أبي العلاء المعري، وقبلَهُما بشَّار بن بُرد «أستاذ المحدثين»، رغم أنَّه كان في شعره ينتصر لِبُعْدِه العقائدي، بما يمكن اعتباره موقفاً أيديولوجياً بالمفهوم الحديث.لم أتكلَّم عن المتنبي وأبي تمَّام، رغم أهميتهما الشِّعرية، كون شعرهما ارتبط بالمدح، أي بما كان خارجَ ذات الشَّاعر، وخارج الدلالات المُتحرِّرة من إكراهات السلطة السياسية أو الدينية.ولعلَّ الأدب أو الثقافة في العصر الحديث، دون الوقوف على مرحلة ما سُمِّيَ بـ «عصر الانحطاط» الذي يحتاج لإعادة فحص ومُراجَعَة وتأمُّل، وتصحيح لكثير من القراءات السَّائدة عنه، ظلَّت مُلْتَصِقَة بالسياسة، نظراً لعوامل تاريخية، فرضتْ على الأدب والثقافة، عموماً، علاقة التبعية هذه.

 

 

من ضمنها وأهمها، ما عرفته الدول العربية من احتلال، وما ساد فيها من تخلُّف وتراجع في كل شيء.إنَّ صيرورة الأدب والثقافة العربيين، كانت صيرورة تبعية، ولم يستطع الأدب، أن يتميَّز، في شكله، وفي أبعاده الدلالية، وفي رؤيته للعالم، بخصوصيته كخطاب يَبْتدِع ويُضيف، وتكون له رؤيتُه المُغايِرَة التي كان يمكنها أن تُضيء بعض ما التبس في الخطاب وفي الممارسة السَّياسِييْن، وهذه من الأسباب التي عطَّلت صيرورة الأدب، وصيرورة الثقافة عند العرب، في اتِّجاه المعنى الأدبي أو الثقافي الصِّرف، الذي يتحرَّر فيه الشكل والدلالة من المعنى المُعطى والمسبق والجاهز.في شعر المتنبي، بغض النظر عن الخصوصية الشِّعرية لتجربة هذا الشَّاعِر، وما تميَّزت به من جُرأة في التَّعامُل مع الحُكَّام، حين اختار أن يبدأ بنفسه، قبل أن يفرغ لممدوحيه، نجد هذا الانصياع للسياسي،

 

أو وضع الشِّعري في موازاة السياسي. فالمتنبي كان يعرف مكانتَه جيِّداً عند الحُكَّام، وكان يعرف أن الحاكم في حاجة لشعره، وهو استعمل شعره لقضاء مآربه، رغم ما سيجنيه من خيباتٍ في مصر، ما جعله يقلب ظهر المِجَنّ على كافور، فكانت قصائده في هجائه أقسى وأمَرّ عليه من مدائحه.فالشاعر كرَّس شعره لغيره. وإذا كان المتنبي أصرَّ على حضوره في ما كتَبَه، فغيره تنازل عن ذاتِه، وذاب في ممدوحيه، أو في المعنى الذي كرَّس له شعره. ويمكن هنا الإشارة لعمرو بن كلثوم، الذي كانت القبيلة عنده فوق كل شيء، وأيضاً حسَّان بن ثابت الذي أصبحت عنده العقيدة فوق القبيلة، وأصبحت ذات الشَّاعِر غائبة، امْتَصَّتْها العقيدة، وأصبحت تابعة للدِّين، وليس لِرؤية الشَّاعر، بدليل ما رُوِيَ عن الرسول حين الْتَمَس منه حسَّان الردَّ على من هَجَوْا الرسول من المُشْرِكين، فطلب منه الرسول أن يذهب عند أبي بكر ليخبره بالأنساب، حتى لا يُوغِل في هجائه لبعض هؤلاء، في ما قد يكون لهم من نسب مع قريش.فأن تصبح حُجَّة الشَّاعر خارج ذاته، وأن يكتب وفق معيار، أو شرط ما، فهذا معناه تبعية الثقافي للسياسي، أو العقائدي، وهو ما اسْتَمرَّ إلى وقتنا الحاضر، خصوصاً في عُرِف بالفكر اليساري العربي، أو الالتزام السياسي، الذي كانت له انعكاساتُه على الشِّعر، وعلى الفكر عموماً.

 

ولعلَّ سارتر، في كتابه «ما الأدب؟» حاول أن يُثير هذا الموضوع، بانتزاع الشِّعر من هذا المفهوم، ووضعه في سياقه الإبداعي الصِّرف.الثقافي كان دائماً تابعاً، ولم يكن له لسانه الخاص به، وكان الشِّعر بشكل خاص «ديوان العرب» ولسان القبيلة أو العقيدة، ولم يكن لسان الشَّاعر الذي له رؤيتُه الخاصَّة به، وله موقفه الذي يمكن النظر إليه باعتباره اقتراحاً وإضافةً، وفكراً، ليس بالضرورة هو فكر السياسي أو رجل الدين، أو الجماعة التي ينتمي إليها الشاعر أو المثقف.شاعر مغربي

خميس, 07/08/2014 - 11:53

          ​