الإصلاح التربوي الذي ننشده / محمد عبد الله ولد بين

مفهوم الإصلاح التربوي: الإصلاح التربوي هو جملة التغييرات يتم إدخالها على نظام ما ، بهدف جعله قادرا على الاستجابة لمتطلبات المجتمع جزئيا أو كليا ، وبهذا يكون الإصلاح التربوي مشروعا لتغيير وتطوير النظام التربوي في إطار عملية الابتكار، ويتم مشروع  الإصلاح باستثمار المحيط ، وأخذ معطياته بعين الاعتبار وتدبيرها بطريقة رشيدة ... أما نتائج الإصلاح فإنها تتحدد بالمردود الذي يحققه.

أهمية الإصلاح التربوي:

تكمن أهمية التعليم في مساهمته بتقدم المجتمع وتطويره وجعله أكثر تقدما وتحضرا وإصلاحا ، كما يعد التعليم أحد أهم العوامل الرئيسية التي من شأنها المساهمة بشكل فاعل ومؤثر في إرساء متطلبات نجاح عملية التطوير لتحقيق الأهداف الوطنية للبلاد.

ولعل في موريتانيا ما يعيقنا من تحقيق فكرة أن نكون مجتمعا معاصرا ومتطورا وهو هشاشة التعليم ومخرجاته باعتباره اللبنة الأولى للشروع في تغيير المجتمع، إلى أن أتت فكرة الإصلاح التربوي التي انتظرنا أن تقطع أو تضيف لما سبق ، وتطلق فكرة إنشاء وإرساء نظام تعليم عصري يستطيع مواكبة تطورات العصر، ويكون قادرا على تخريج أجيال بفضلها نستطيع أن نبني مجتمعا له من الخصال ما يجعله من أكثر البلدان تعلما وتقدما.

ما هو الإصلاح التربوي الموريتاني:الذي ننشده ؟ وما رهاناته ؟

شكّل إصلاح المنظومة التربوية بموريتانيا التحدي الأكبر والرهان الأساسي لبلوغ التنمية الاقتصادية و الاجتماعية المنشودة، على اعتبار أن إصلاح قطاع التربية والتعليم هو بالأساس استثمار في الرأسمال البشري، الذي يشكل الثروة الوطنية الإستراتيجية لمواجهة تحديات العولمة والتنافسية، والسباق نحو امتلاك الخبرات والعلوم والتقنيات،باعتبارها النواة الصلبة لتأسيس مجتمع العلم والمعرفة،والمدخل الأساسي للرقي ببلادنا إلى مصاف المجتمعات المتقدمة.

فتاريخ المنظومة التربوية الموريتانية هو تاريخ لإصلاحات عرجاء بامتياز، وفي نفس الوقت هو تاريخ صعوبات وإكراهات على أرض الواقع، حيث أن كل الإصلاحات المتعاقبة على المنظومة التربوية الموريتانية باءت بالفشل،نظرا لكونها لم تبلغ، لا القصد من بلورتها، ولا الهدف من إعدادها. لتتعدّد الأسئلة و تتشعب الإجابات: لماذا فشلت الإصلاحات التربوية السابقة ؟

 لماذا لم تحقق الأهداف المسطرة و لم تبلغ النتائج المرجوة ؟و ما هي أهم مداخل الإصلاح التربوي الذي ننشده؟
ثم ماذا نريد من المدرسة غدا؟

 وما هي ملامح الإنسان الذي نبحث عنه؟

 وما هي أفضل التجارب الناجحة التي يمكن أن نستفيد منها،أو ما هي العادات الإيجابية التي ينبغي التركيز عليها والتقاليد السيئة - داخل المنظومة التربوية- التي يجب محاربتها من اليوم قبل الغد؟

ولعل ما دفعني إلى طرح هذه الأسئلة- اللجوجة- هو الوضع المتردي الذي باتت عليه مؤسساتنا التربوية، سيما وأنّ ترتيبنا الدولي في أهم تقرير دولي حول مسـتوى التلميـذ الموريتاني في سنّ 15 سنـة في التمـكن من المعـارف الأسـاسـية ( الرياضية والعلمية وفهم النصوص) ، جد مؤسف ومحبط في الآن ذاته..       هذا بالإضافة إلى الكارثة السنوية التي نعاني منها جميعا: مغادرة أكثر 60ّ بالمائة من تلاميذنا دون الحصول على شهادة..

وهنا نتساءل ثانية:هل بإمكان الأيام التشاورية المزمع تنظيمها حول إصلاح المنظومة التربوية التي ستنطلق هذا العام ستتلمّس أبواب إصلاح منشود منذ عقود واستحال،إلى الآن. إصلاح يرمي إلى تلافي هُزال المنتوج المدرسي الذي ما فتئ يتعمّق سنة بعد أخرى،حتى تغلّب الفتق على الرتق.. كما يقال في المثل؟
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ التحدي الأساسي للمنظومة التربوية يتمثل بالدرجة الأولى في مساهمتها الأساسية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من خلال تأهيلها للرأسمال البشري وعملها على إعداد أجيال المستقبل وقدرتها على تسهيل الانخراط في المشروع المجتمعي الذي يعتمد بدرجة كبرى        الخيار التنموي و الديمقراطي،  ..

ولكن..لا يمكن رفع هذا التحدي، ومن ثم تحقيق ما نصبو إليه جميعا ، إلا من خلال مدرسة عالية الجودة، ومدرسة مجتمع انعقد دستوره لسنة 1991 على قيم الإسلام والحرية والعدل والمواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وهي مدرسة يحلو للبعض أن يسميها (المدرسة الجمهورية) التي تتبنى التنمية الإنسانية والرقي الاقتصادي والاجتماعي، من خلال اعتماد مقاربات تربوية جديدة تركز بالأساس على تفاعل المتعلمين٬ وتطوير كفاياتهم الذاتية وتحرير روح المبادرة و الإبداع والابتكار لديهم، وكذا من خلال نهج طرق بيداغوجية حديثة تتجاوز منطق شحن الذاكرة و طرق التلقين الكلاسيكية إلى منطق إذكاء الحس النقدي و تنمية الذكاء لدى المتعلّم في أفق تسهيل عملية اندماجه في مجتمع المعرفة والتواصل.
لا ينبغي إذا، أن نخطئ في التشخيص ولا أن نبقى سجناء مصالح ضيقة لبعض-المنتفعين من فساد المنظومة التربوية-، ولا أن نغمض أعيننا عن عمق الإخفاقات بإبراز النجاحات- وهي موجودة ولا شك-.

ومن هنا، فإنّ الإنطاق في مسار إصلاح المنظومة التربوية الموريتانية، يستوجب منهجيا إخضاع المنظومة التربوية ونظام التعليم المعتمد منذ 1956 إلى آليات التقييم والنقد والتفكيك والتشخيص، ذلك لما يمثله التعليم من عمق في صياغة ملامح الأجيال القادمة وبلورة قيم الشباب وقدراتهم وكفاءاتهم باعتبارهم عماد نهضة المجتمع وركائز تطوره وعقول تنميته وسواعد بنائه بما يمثلونه من عمق ومخزون إستراتيجي للثورة والدولة والمجتمع.

والإصلاح التربوي المنشود ما أن ينطلق إلا ويتعطل ، بل غيب الحديث عنه على مدى سنوات طويلة تاركا خلفه عددا من التساؤلات ونقاط الاستفهام.  ولعل مما ساهم في تغييب هذا المشروع هو الصراعات السياسية وغياب الإرادة الإصلاحية.

وعليه، فإن نجاح الإصلاح التربوي المنشود مرتبط بالأساس،بإعطاء الأولوية للحلول التربوية البيداغوجية لمعالجة اختلالات المنظومة التربوية عبر استبعاد منطق المعالجة التقنية الصرفة للإشكاليات التربوية، وتجاوز المقاربة الكمية إلى ما هو نوعي،من خلال التركيز على المستهدف الأساسي من الإصلاح (التلاميذ والمدرسين والحجرات والمدرسة وخريطتها وقيادة النظام التربوي ).و كذا تجديد المحتويات و المضامين و تحديث البرامج والمناهج الدراسية،ومراجعة المقاربات التنظيمية المعتمدة حاليا في تسيير الشأن التربوي.هذا بالإضافة إلى ضرورة العمل على تثمين العنصر البشري ،عبر إعادة الاعتبار له و تحفيزه ماديا و معنويا. وكذا تفعيل المقاربة التشاركية و إنجاز تعبئة مجتمعية شاملة حول الإصلاح التربوي،عن طريق إعداد وتنفيذ خطة تواصلية محكمة قصد ضمان تعبئة و انخراط ومساهمة كافة الفاعلين و المتدخلين و المعنيين (كما أشرنا إليه آنفا). من أطر إشراف تربوي، ونقابات، وجمعيات المجتمع المدني المهتمة..إلخ) في المجهود الإصلاحي، في أفق إعادة الثقة إلى المدرسة الموريتانية و إنجاح الإصلاح التربوي المنشود،باعتباره المدخل الأساسي لكسب الرهان التنموي لبلادنا.

وهكذا فإن الإصلاح التربوي الذي ننشده ينبغي أن يشمل إعادة هيكلة المدرسة ومراحل التعليم في موريتانيا من حيث عدد المراحل وعدد السنوات لكل مرحلة والهدف منها وملامح المتعلم الذي نريده في نهاية كل مرحلة ، وما يتطلبه ذلك من : - تحفيز للمتعلمين وتهيئة ، والتغذية ونوع الصحة المدرسية وتهيئة الظروف الملائمة لإعداد التربية ما قبل المدرسية.

أما بخصوص المدرسين فإن الإصلاح ينبغي أن يحدد نوع وكيفية التكوين الأولي والمستمر وأنواع التحفيز التي تعيد الاعتبار لمهنة المدرس ماديا ومعنويا. وكيفية تمهين المدرسين التي تجعل من مهنة التدريس عقيدة وممارسة ويتم ذلك حتما بواسطة تعزيز ثقافة الاستحقاق التي فقدوها في ما فات من تاريخ نظمنا التعليمي ، وهي ثقافة تتكئ على المنظم والشفاف للمسار المهني وعل أساس تكوين مهني مؤسس على حاجات المدرسة.

وبخصوص الحجرات والأقسام ، فإن الإصلاح الذي نريده يتطلب جعل الحجرات فضاء فعالا لاكتساب المعارف يقوم على منهاج متكيف مع الخصوصيات النفسية والاجتماعية والقيمية للتلاميذ ، ويعتمد على استغلال وسائل الإعلام الحية وتقنياته الألكترونية المشاعة ، ولكنه أكثر من ذلك لابد من أن يكون باللغات التي يجمع العالم على أنها الأمثل للتدريس وهي اللغة العربية واللغات الوطنية.

أما المدرسة التي نأمل أن يتفطن الإصلاح الذي ننشده ، فهي التي تشكل بيئة آمنة وشاملة، مدرسة تميل إليها أهواء والأطفال ووكلائهم عل حد السواء ، بيئة جاذبة لكل الشركاء ، وكلاء ومدرسين وتلاميذ، مدرسة تقضي على جميع أشكال العنف والتمييز، يتلقى فيها كل التلاميذ من ذوي الاحتياجات الخاصة خدمات ملائمة.

الخريطة المدرسية: والذي ينبغي أن يكون عليه الحال في الإصلاح الذي ننشده هو خريطة مندمجة تشمل كافة الشروط ولوازم الاستمرار، تهيئ اندماج جميع العناصر الضامنة لسير الدراسة بشكل يضمن التراضي بين جميع الفاعلين والشركاء في تسيير المدرسة وتضمن الصرامة في تفعيل الضوابط والمعايير.

قيادة النظام التربوي: إن الإصلاح التربوي الذي ننشده لا يمكن أن يكون له معني إلا إذا تبنى حكامة جيدة للنظام التربوي ، واتكأ على إرادة سياسية صارمة ، وتبنى تفويضات واضحة ومساءلة مؤكدة للشركاء والإداريين وأرسى أسس الترقية القائمة على الاستحقاق، واشتراط أن تكون البيانات موثوق بها وفي خدمة التعليم.    
أردت القول من وراء كل هذا، إننا اليوم أمام فرصة تاريخية حقيقية كي نبني منظومة تعليمية واعدة، فالتطور أي تطور ، يفرض تغييراً مهماً في أهداف التعليم ومناهجه ومضامينه..وعلى هذا الأساس بالتحديد، لا يمكننا أن نتكلم عن إصلاح تربوي ناجح في غياب توافق سياسي حقيقي لكافة الحساسيات الوطنية، حول المرامي و الوظائف و الاختيارات الأساسية للمدرسة الموريتانية المنشودة.
قلت هذا، حتى لا تتعمّق المسافة بين التلميذ والمربي ومن ثم تنحرف المؤسسة التربوية عن الأهداف التي رسمها المجتمع الموريتاني.
وأخيرا، فإن إصلاح المنظومة التربوية يمثل- كما أسلفت- مطلبا إستراتيجيا حيويا يجب أن تساهم فيه كل الأطراف التربوية والسياسية والمدنية والاقتصادية،وذلك على أساس التشاور المجتمعي الحقيقي، بمنآي عن كل مظاهر التزييف التي عهدناها تصطنع مساحيق تجميل تقدم لأصحاب القرار تمهيدا لإجهاض المشروع المجتمعي الذي يتخذ من إصلاح النظام التربوي سبيلا.

يبقى أن أختم بحقيقة لا مراء فيها ولا  مزايدة ، وهي أن أي إصلاح للنظام التربوي الموريتاني لا يقوم على القيم الناظمة للمجتمع الموريتاني سيكون وبالا عليه، ولن تكون له نتائج تضمن  انسجاما اجتماعيا وأخلاقيا .     فالمجتمع الموريتاني  بتعدده الاثني مجمع ومنتظم في الثوابت الإسلامية، ولن يقبل غير ذلك مرجعا موحدا لجيل المستقبل الذي تتعاوره اليوم معايير وقيم العولمة الجارفة. إصلاحنا الذي ننشده ينبغي أن ينطلق من مبادئ الشرعة الإسلامية بوصفها المرجع والعقيدة والمسلك ومنبع كل التصورات التي ننطلق منها في بناء الشاب المواطن الموريتاني الذي بيستهدفه الإصلاح. 

ثلاثاء, 12/01/2021 - 13:31

          ​