من كيغالي إلى كيدال.. (الطيران عكس الرياح)

ساد القاعة الواسعة صمت ثقيل. سرقته إغفاءة خفيفة، رغم همومه.. انتفض، كأنما رأى كابوسا...

-  باسم الله.. باسم الله...

التفت إلى أقرب معاونيه..

- آخر الأخبار؟

- يتقدمون بسرعة البرق...

عاد الصمت ثقيلا. أطرق، ثم جال ببصره في سقف الحجرة حيث تتدلى ثريا بلا أنوار...

قال، كأنما يخاطب نفسه...

- ماذا فعل صديقنا القديم؟

- لم يحرك ساكنا.

امتعض وجهه، لكنه سيطر على انفعاله بسرعة...

- وجارنا اللدود؟

- لا شيء.. في الظاهر.

أردف سريعا، كأنما كان يتوقع الإجابة...

- والوسيط العتيد؟

- ينتظر القطاف...

أحس، في إجابات معاونه نفَس الشماتة، فأراد أن يسمعه صوتا حازما سيهب للنجدة سريعا... نظر في عينيه وقال بصوت واثق..

- اتصل بصديقنا الجديد. اعتدل في جلسته، وانشرحت أساريره... كانت عيناه، وعيون مساعديه معلقة بالجوال الذي طال رنينه، ثم جاء صوت أخيرا... لم يطل الأمر كثيرا. وضع المعاون الجوال على الطاولة، وأطرق إلى الأرض...

- قالوا إنه في الصلاة.. سيرد بعد إتمامها...

سكت، ثم أضاف بعد تردد...

- قد يطول ورده بعد الصلاة.. حسب ما قالوا...

نظر في ساعة يده... ثم ابتسم ابتسامة خفيفة...

- ناولني الهاتف!

تردد قليلا.. فقد تذكر حفل التنصيب.. والخلاف حول قوة حفظ السلام، وخطاب غوينا المتعنت، واستفزاز الطائرة... وأمورا أخرى اعترف بينه وبين نفسه أن "صديقه" كان محقا فيها، لكنه عزم أمره...

- آلوه!

- مرحبا، صديقي العزيز. كيف الأحوال؟

- سيئة، كما تعلم...

- أنا في الخدمة.. ما الذي يمكنني فعله؟

- تستخدم نفوذك لديهم ليتوقفوا عن الزحف...

ساد صمت قصير...

- سأفعل أكثر من ذلك... سأكون في باماكو مساء غد...

لم يكد يتمالك نفسه...

- حقا!!!

- إلى اللقاء...

- ليلة هنيئة...

كان الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز وصل كيغالي، عاصمة روندا، قبل وقت وجيز، تلبية لدعوة من رئيس مجموعة البنك الإفريقي للتنمية للمشارك في اجتماعاتها، التي تصادف هذا العام الاحتفال بخمسينيتها.. سبع ساعات من الطيران المتواصل بين نواكشوط وكيغالي. وكان برنامج رئيس الاتحاد الإفريقي يقتضي الانتقال من كيغالي إلى بريتوريا لمشاركة شعب جنوب إفريقيا أفراحه بتنصيب رئيسه يعقوب زوما...

لكن الأجندة تغيرت بشكل مفاجئ.. سيرسل الرئيس أحد معاونيه إلى جنوب إفريقيا، ويعود أدراجه إلى باماكو بعد إلقاء خطابه مباشرة... بعد ست ساعات من الطيران المباشر وصل الرئيس إلى باماكو، فدخل وصديقه في محادثات على انفراد، خرجا بعدها إلى الصحافة... رحب المضيف بضيفه، أيما ترحيب، وشكره على خطوته الشجاعة...

- سأل الصحفي المالي..

- ما الذي يمكن أن تنتظره مالي من موريتانيا؟

- فجاءه الجواب، سريعا واضحا.

- كل شيء. وأسهب الرئيس في الإشادة بعلاقات البلدين الأخوية التاريخية، وشدد على ضرورة التنادي للصلح، ونبذ العنف بين الأشقاء...

  لم يطل المؤتمر الصحفي؛ فلم يأت الرئيس من أجل المكروفونات، وكاميرات التصوير، وإنما جاء ليعمل على إطفاء الحريق... عند الساعة السابعة من فجر اليوم التالي كان الرئيس في الطائرة من جديد... إلى كيدال..إلى أرض المعركة. ولأنه كان مدركا تماما لمخاطر وجهته، ترك جل وفده في باماكو.. ترك مدير تشريفاته، وطبيبه الخاص، والمصور.. ثلاثي لا يفارق الرؤساء في حلهم و ترحالهم.. أولهم رمز السلطان، وآخرهم عين التاريخ، ولافتة الدعاية، وأوسطهم الترياق من المنون...

لكن الرئيس لم يكن ذاهبا إلى كيدال لاستعراض طابور الشرف، وسماع النشيد الوطني، والاستراحة في قاعة الشرف... ولم يذهب لالتقاط صور تذكارية تتطايرها وكالات الأنباء، وتزين بها الصحف صفحاتها الأولى... أما المنون فيعلم، لكثرة ما اقترب منه، أنه كتاب مؤجل... لو أراد كل  ذلك البهرج العقيم لاستمر في رحلته إلى جنوب إفريقيا، ثم عاد، على مهل إلى نواكشوط، ودعا إلى قمة مصغرة تدوم يومين، ويخطب فيها خطابين، ويعقد ما شاء من مؤتمرات صحفية، ويجني الثمار ليستثمرها في حملته الانتخابية التي أصبحت على الأبواب... كلما أراده الرئيس هو إطفاء الحريق، دون تعريض معاونيه للخطر، وقد كان الخطر محدقا به طوال الرحلة...

حطت الطائرة الصغيرة في غاوو، ثم انتقل الرئيس إلى طائرة مروحية عتيدة مع مفرزة من القوات الدولية. كان يجلس بين الجنود المدججين بالسلاح فبدت بدلته، وربطة عنقه الأنيقة إضافة سريالية إلى المشهد، كما في إحدى لوحات سلفادور دالي الشهيرة. كانت المروحية تهبط حتى تصبح في متناول بندقية قناص مختبئ بين الشجيرات، ثم ترتفع فجأة حتى يحس ضيفها الرئيس بعض ضيق التنفس.. الضجيج يصم الآذان، وحركة الارتفاع والانخفاض المستمرة تشعر بالغثيان...

هبطت المروحية بسلام في كيدال ليبدأ الرئيس فورا التفاوض مع الحركات الأزوادية الثلاث، من منتصف النهار حتى الساعة السادسة مساء... وافقت الحركات على وقف فوري لإطلاق النار، وتحرير السجناء والدخول في مفاوضات مباشرة. عاد الرئيس أدراجه وقد حقق كل أهدافه. وجد مضيفه في المطار فدخل معه، وأركان حكومته في تشاور فوري، ثم عاد إلى مقر إقامته في حدود الساعة التاسعة. بين انطلاقه من باماكو عند الساعة السابعة صباحا، وعودته إليها في حدود الثامنة مساء لم يطعم الرئيس سوى قهوة سوداء، وكوب ماء فاتر...

لم تكن هذه مخاطرته الأولى من أجل السلام بين الأشقاء. فقد هرع لنجدة الليبيين في محنتهم، فذهب إلى عرين "الثورة" في بنغازي حيث ينعدم الأمن وتسود الفوضى. وحين حاصر الغوغاء المسلحون فندق تيبستي نصحه مضيفوه بالخروج من باب خلفي، حيث تنتظره سيارة ستهربه إلى المطار حفاظا على سلامته. رفض، وأصر على الخروج من الباب الرئيس الذي دخل منه...

وهو عائد من غاوو في الطائرة الصغيرة استرخى قليلا، وهو يفكر.." متى يفهم إخوتنا الفرق بين الإرهاب والحركات الوطنية ذات المطالب المشروعة! متى يفهمون أن الحروب المباشرة، و الحروب بالوكالة لا تحل النزاعات! شرحت ذلك لتوماني قبل أن نتخاصم حول تساهله المسيس مع الإرهاب، والتهريب... وشرحته مطولا لصاحبنا هذا، لكنه اختار الممطالة والتسويف... لقد كنا، ولا نزال رأس الحربة في الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل دفاعا عن حدودنا وعن مصالحنا، لكننا رفضنا الانخراط في حرب لا تميز بين مطالب شعبية شرعية وحركات إرهابية...

واليوم أثبتت هذه الأحداث الأليمة صدق تحليلاتنا المبنية على معرفة عميقة بالواقع؛ فقد هزم الإرهاب لكن الحركات الوطنية بقيت. ذلك ما أدركه المجتمع الدولي متأخرا، ونتمنى أن تكون الحكومة المالية قد أدركته لتنجح هذه المهمة التي تبدو مستحيلة..." قطعت أضواء باماكو الخافتة حبل أفكاره، فاستعد للهبوط... ، في اليوم التالي إلى وطنه، بعد أكثر من 23 ساعة قضاها في الجو دعما للتنمية في كيغالي، وبحثا عن السلام في كيدال..

عاد، دون مراسم خاصة، أو استقبال شعبي رغم عظمة الإنجاز.. وحده، صحفي موريتاني تحمس فشبه ما أنجزه الرئيس في كيدال، بزيارة ميتران إلى سراييفو، مع فارق كبير خفي عليه.. ترك ميتران سراييفو خلفه محاصرة يائسة، فلم يأت لدعم البوسنيين، وإنما جاء لدعم الصرب، والمشاركة في تخليد ذكرى عزيزة عليهم؛ ذكرى اغتيال ولي عهد النمسا على يد الصربي (غافريلو برينسب) يوم 28 سبتمبر 1914، وهي الشرارة التي أطلقت الحرب العالمية الأولى وقاتلت فرنسا وصربيا فيها جنبا إلى جنب. ذلك التحالف التاريخي هو الذي عبر عنه ميتران نفسه إبان الحرب البوسنية بقوله:" ما دمت حيا، هل تسمعونني جيدا؟ لن تحارب فرنسا صربيا أبدا." ونفس المعنى ذهب إليه (بول غارد) الخبير في شؤون البلدان السلافية، حين قال:" كان يمكن إنقاذ حياة مائة ألف، إلى مائتي ألف بوسني لو أن ميتران غادر السلطة مبكرا."...

أما الرئيس فقد غادر كيدال وأهلها في سلام، وقد وضعت الحرب أوزارها... كان الاتحاد الإفريقي على حق حين سلم زمامه للرئيس الموريتاني في هذه الظروف الحرجة من تاريخ القارة، ولن يندم الشعب الموريتاني...

سيدي محمد ولد ابه

[email protected]

سبت, 24/05/2014 - 23:48

          ​