دفاعا عن الغوغاء// الكاتب الصحفي أحمد فال ولد الدين

ما ذُمّت شريحة من شرائح المجتمعات كما ذُم العوام، وما قامت ثورة في التاريخ إلا على أكتاف الغوغاء. ولا ترد  كلمات مثل العامة والدهماء والرَّعاع والغوغاء والطَّغَام والغُمار وسوادِ الناس في أدبيات الساسة والكتاب والمؤرخين إلا في سياق الذم، رغم أن الدلالة النهائية للمترادفات السالفة تنصرف سياسيا للكثرة الكاثرة من شعب معين.. إلى الأغلبية.. إلى ملوك صناديق الاقتراع.

فهي تشير إلى (المواطن الخام) -إن جازت العبارة- ممن لم يتميز بمركز رافعٍ أو منصب جاذبٍ يميزه عن بقية الكتل البشرية التي تموج بها فِجاج الدنيا. ومع أن هذه الكتلة البشرية هي غالبية الأمة وهدفُ كل حديث عن تقدمها أو ازدهارها، وإسعادُها – نظريا على الأقل- غاية كل ثائر أو سياسي إلا أنها في ذات الوقت عرضة لسخرية المثقفين واحتقارهم في كل عصر ومصر. ولعل نظرة على تعريفات “العامة” في القواميس والكتب المؤسسة معبرة جدا عن مدى دونية نظرة “النخبة” للقوم منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.

 

 

إذ يذكر أبو علي القالي في أماليهِ أن معاوية ابنَ أبي سفيان قال لصعْصعة بنِ صوحان: صفْ لي الناس. فقَالَ: خُلق الناس أخيافاً: فطائفةٌ للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورِجْرِجةٌ فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويغلون السعر، ويضيقون الطريق”.

 

فهنا، يحصر ابنُ صوحان المساهمة الحضارية للعامة في الاحتباس الحراري بلغة العصر.. فهم كتلة فحسب…” يكدرون الماء، ويغلون السعر ويضيقون الطريق”. كما يذكر الخطابي في كتاب العزلة أنه قيل لِبعض الحكماء: إِنَّ الْعَامَّةَ يُثْنُونَ عَلَيْكَ. فَأَظهَر الوَحْشَةَ  من ذلك وقال: لَعَلَّهُمْ رَأَوْا مِنِّي شَيْئًا أَعْجَبَهُمْ، وَلَا خَيْرَ فِي شَيْءٍ يَسُرُّهُمْ وَيُعْجِبُهُم”. فهذا (الحكيم) يرى أن إعجاب العامة منقصة مطلقا. وهذه الفلسفة تذكرنا بضدها المعاصر المتمثل في السياسي الشعبوي الذي يزايد بأشياء بعيدة عن الواقع ممايستبطن احتقارا للعامة وتلميحا إلى سهولة خداعها وتصديقها لما لا يمكن.

 

أما ثالثة الأثافي في أيامنا هذه فدعوة أحد أشهر أدعياء الليبرالية في مصر لحرمان العامة من التوصيت في رئاسيات 2012 لأنهم أميون لا يميزون الأصلح. ولعل من أطرف تعاريف العامة الموحية بطيعية نظرة النخب لها ما وقفت عليه عند الخطابي في كتاب (العزلة) وهو يروي عن فقيه يدعى أبا عاصم جاءه أحدهم سائلا قائلا: “إِنَّ امْرَأَتِي قَالَتْ لِي يَا غَوْغَاءُ! فَقُلْتُ لَهَا: إِنْ كُنْتُ غَوْغَاءَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. فَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: هَلْ أَنْتَ مِمَّنْ يَحْضُرُ الْمُنَاطَحَةَ بِالْكِبَاشِ وَالْمُنَاقَرَةَ بِالدُّيُوكِ؟ فَقَالَ لَا. فَقَالَ لَهُ: فَهَلْ أَنْتَ الرَّجُلُ يَحْضُرُ يَوْمَ يَعْرِضُ السُّلْطَانُ أَهْلَ السُّجُونِ فَيَقُولُ: فُلَانٌ أَجْلَدُ مِنْ فُلَانٍ؟ فَقَالَ لَا. فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ الرَّجُلُ الَّذِي إِذَا خَرَجَ الْأَمِيرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَلَسْتَ لَهُ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ حَتَّى يَمُرَّ ثُمَّ تُقِيمُ بِمَكَانِكَ حَتَّى يُصَلِّيَ وَيَنْصَرِفَ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَاصِمٍ: لَسْتَ بِغَوْغَاءَ إِنَّمَا الْغَوْغَاءُ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا”.

 

هذا الاحتقار للعامة عند من قرروا تسمية أنفسهم تجاسراً بـ”الخاصة” أو “النخبة” يبررونه بوسم العامة بكونها أبعد ما تكون عن الوعي وحملِ الهمّ الأعمّ. إذ ينظرون إليها على أنها حجر العثرة في طريق أي مشروع ثوري أو فكرة مختصِرةٍ للتاريخ، لتمسكها بالمقدسات الموروثة التي لا تريد التنازل عنها. كما يصمونها بالعاطفية والإصغاء لنداء العاطفة أكثر من نداء العقل.

 

ورغم هذه النظرة التي تكاد تكون مجمعا عليها لدى (النخبة) وأهل السلطان، فإن حادثات الليالي تشير إلى أن العوام أكثر وفاء لمصلحة الأمة التي يعيشون فيها من نخبهم، لخلوهم من أي طمع في السيطرة، بل غاية ما يريده الواحد منهم أن تعم العدالة لعلمه يقينا أنها الحامي له لخلوه من قوة ذاتية أو عصبية تحميه.

 

 

فالثورات الكبرى في التاريخ لم تخرج إلا من الحارات البائسة التي يقطنها عوام الناس. ولعل نظرة في أحد كتب التاريخ الإسلامي ستفاجئك بكثرة تردد عبارة مثل: “ثم ثارت العامة”، وعندما تقرأ القصة تجد الثائرين ناسا عاديين خالين من أشواق النخبة المثقلة بهمومها الذاتية. بل الثائرون ناس عاديون يريدون نفاق السوق وكف يد الظالمين وانبساط العدالة بين الناس. والسبب في تعلق العامة بالعدل أكثر من نخبها أن النخبة بطبيعتها تسعى للسيطرة والتحكم والتوجيه، فيما يسعى العامي إلى تجسد العدل في حياة الناس، لا غير.

 

ولعل أبا حيان الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط) ومكيافيلي في كتاب الأمير وفقا في وضع يديهما على سر تفوق العامة أخلاقيا على الخاصة هنا. فقد حلل مكيافيلي سر ميل العامة للعدل بقوله: “لأن غرض عامة الشعب أشرف من غرض الأشراف الذين غايتهم الاستبداد بالغير، وغاية العامة اتقاء الظلم”.  أما أبو حيان فقد قال عند تفسير قوله تعالى: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا باديَ الرأي الآية.. قال: “والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء، لأن أذهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا، فهم أدرك للحق وأقبل له من الرؤساء”.

 

وبالجملة يمكننا التنبيه إلى فكرتين أساسيتين لدى التفكير في فصل ما بين العقل الجمعي للعامة والعقل الجمعي للنخب أمران:  الأول: لا فرق بين مستويات تفكير العامة والخاصة إذا تعلق الأمر بالمصالح والمآلالات. فالعامة تعرف مصالحها لكنها لا تحسن التعبير عنها في كلمات مرصوصة مرصوفة رنانة. فهي لا تحسن تشقيق الكلام، لكنها تعرف الحق وتميزه. الثاني: أن العامة أنقى وأصدق وأكثر تجردا للعدالة وتعلقا بها من نخبها. ولذلك لا نوافق كليا على قول جان جاك رسو إن النخب تعرف الحق ولا تريده، والعامة تريد الحق ولا تعرفه. بل نرى أن العامة تعرف الحق وتريده وأن النخب تعرف الحق ولا تريده.

 

بل لعل أكثر من يعبر عن النفسية الدفينة لكثير من النخب –إلا من برهن على عكس ذلك من خلال ضريبة الدم والسجن- ذلك الأعرابي الذي سأله أحدهم قائلا: أتريد أن تُصلبَ في مصلحة الأمة؟ فقال. لا، ولكني أحب أن تُصلب الأمةُ في مصلحتي!

اثنين, 26/05/2014 - 19:23

          ​