ظاهرة الإجرام الطبيعية جدا!

لقد ظلت الموجة الإجرامية التي تعرفها العاصمة اليوم شريطا واضحا يمر أما عيني منذ عدة سنين، تنبئ محتوياته بمستقبل كارثي سيعيش المجتمع تفاصيله، وسيجد نفسه يوما أمامه لا محالة، وذلك عندما كنت أمر على ما يعرف ببيوت الفيدو المنتشرة في كل ركن من كل حي، ويرتادها مئات الأطفال والمراهقين، ويتلقون بداخلها بالصوت والصورة دروسا في كافة فنون الإجرام والانحراف، من آخر ما توصلت إليه تقنيات السرقة والنشل والحرابة والاغتصاب والقتل وتعاطي المخدرات وطرق الحصول عليها!

كان ذلك خلال نهاية تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية، حيث كانت هذه البيوت مصنفة من طرف السلطات كنشاط مدر للدخل! مرات كنت أرى أشخاصا مصحوبين بأفراد من الشرطة يدخلون هذه البيوت ويخرجون منها، فاعتقدت أنهم يراقبون ما يتم عرضه بداخلها على الأقل، لكنني عندما سألت أحد مسيريها عما يفعله أفراد الشرطة هناك، قال لي هؤلاء أصحاب " أدوتي " يأخذون منا مائة أوقية كل يوم، ويصادرون أجهزتنا وأفلامنا إذا رفضنا دفعها!

هذه البيوت تم منعها وإغلاقها منذ سنوات، أو تناقص وجودها على الأقل ولكن " بعد آش " ؟ لقد أغلقت بعد أن خرجت المئات من المسلحين بمهارات عالية في كافة أنواع وأساليب الجريمة، وبتقدير ممتاز على العموم.. وبعد أن أصبح خريجوها أصحاب مهارات ينقلون مهاراتهم لمن هم أصغر منهم سنا! لكنها أيضا لم تغلق إلا بعد أن أصبح البديل عنها أكثر تطورا وأسهل انتشارا، حيث أصبحت كل قيم الأمم الرفيع منها والوضيع مضغوطة في شريحة بجهاز هاتف بيد طفل أو مراهق، يدور من خلالها حول العالم خلال دقائق وبمائة أوقية فقط إذا لم يعطيها له ذووه تسولها أو سرقها!

كان ذلك الشريط يمر أمام عيني أيضا عندما كنت أرى ظروف وطبيعة الحياة بعشوائيات نواكشوط حيث لا ضابط لنمط الحياة هناك، وحيث الزواج والإنجاب والطلاق يتمون بطريقة تديرها الشهوة ويطبعها الهزل، ولا مدارس ولا مساجد ولا محاظر ولا حد أدنى من ظروف تساعد على نشأة انسان سوي، وكل أربعة أسر ثلاث منها مفككة بلا راع ولا معيل، والآباء أميون ولا يعرفون لماذا أنجبوا أبناءهم ولا لماذا يريدونهم، وعهدهم بهم هو عندما يصبحوا قادرين على المشي على قدمين أو حتى الزحف على البطن إذا كانوا معوقين.. ليصبح الشارع هو أبوهم وأمهم وروضتهم ومدرستهم!

نحن إذن نحصد اليوم ما زرعناه بأيدينا ولا مبالاتنا، ولم يحدث قط أن زرع زارع أشواكا فحصد ورودا، أو زرع خشخاشا فحصد بلحا أوزيتونا! فالظواهر الاجتماعية الغريبة لا تحدث فجأة كالزلازل أو السيول، بل هي خلاصة ل" تخمر " مسلكيات وتراكم اختلالات، ونهاية مطاف لسنين من اللا مسؤولية والإهمال، فلا مسوغ إذن للدهشة أو الذهول من ما نشهده اليوم من جرائم غرسنا بذورها منذ سنين عديدة في تربة صالحة قوامها مجتمع بدوي أمي، أجبرته سلطاته بسياساتها الرعناء وغياب رؤيتها على هجر بيئاته الأصلية، وكدسته في بيئات جديدة تختلف كليا عن بيئاته من حيث نمط العيش ومتطلبات الحياة، وانغمست عنه في شؤونها ومصالحها موفرة له كل أسباب الضياع، تاركة إياه يتفاعل ويتحلل في " محاليل " جهله وتغفله وحاجته وتناقضاته!

نحن نعيش انفلاتا أخلاقيا صنعناه بأيدينا سلطات ومجتمعا، وتفرجنا على كل مراحله وأطواره، ولا يمكن أن تكون انعكاساته شيئا آخر غير انفلات أمني وتصاعد وتيرة جرائم نقول اليوم إنها غير مسبوقة، وهي في الحقيقة غير مسبوقة في تجلياتها، لكنها مسبوقة بإرهاصاتها وأسبابها ومقدماتها، نقول أيضا إنها غريبة على مجتمعنا! صحيح، هي غريبة على مجتمعنا لأن الظروف التي تربى فيها المجرمون غريبة هي الأخرى على مجتمعنا في القرية و " لفريك " لأننا عندما انتقلنا منهما إلى المدينة، لم نجد أمامنا من يعي ويؤمن أنه لا بد لمجتمع بدائي أمي من دولة بقادة ومفكرين ومخططين يراقبونه ويواكبونه ويصنعونه.. لا قادة ومفكرين ومخططين يفكرون ويخططون لأنفسهم ويتركونه يصنع نفسه بنفسه!

ورغم الهجوم واللوم الموجه للسلطات الأمنية لتقصيرها في مجال حفظ الأمن، ولست هنا مدافعا عنها ولا ناطقا باسمها، إلا أن هناك حقيقة لا يمكن لمنصف إنكارها، وهي أنه من النادر جدا أن تسجل جريمة قتل أو اغتصاب ضد مجهول، وغالبا تتمكن هذه السلطات من إلقاء القبض على المنفذين، أحيانا في نفس يوم ارتكاب الجريمة وأحيانا أياما قليلة بعده، كما أن دور هذه السلطات في التعامل مع المجرمين ينتهي عندما تمسك بهم وتحيلهم للعدالة مرفوقين بمحاضر بملابسات القبض عليهم، وهنا يمكننا وضع الأصبع على مكان الخلل الذي هو على مستويين :

فلا زال القضاء عاجزا عن التعامل بحزم وحسم مع المجرمين المحالين إليه، والذين يحكم عليهم بأحكام لا تتناسب و جرمهم، أعرف أنه من الصعب على القضاء الإفراج عن القتلة أو مرتكبي جرائم الشرف، لكنه لا زال يتعامل مع مرتكبي الجرائم الأخرى من لصوص وحشاشين بتساهل كبير، وهؤلاء في الحقيقة ليسوا سوى مجرمين من درجة ثانية أو ثالثة، وهم في طريقهم لأن يصبحوا مجرمين من درجة أولى، لكنهم عندما يصلون إلى العدالة إما أن يتدخل ذوو أحدهم مستخدمين علاقات بقاض أو مفوض شرطة أو وكيل جمهورية، أو مستعينين بنافذ فيتم إطلاق سراحه قبل محاكمته وإيداعه السجن، أو بعد الحكم عليه وسجنه ليلاقيه زملاءه الذين بلغهم البارحة أن الشرطة ألقت القبض عليه متلبسا بجريمة سرقة أو نشل أو حرابة أو شروع في القتل أحيانا! فكيف سيكون شعور ورد فعل مجرم أمسك بزميله في المساء وعاد إليه طليقا في الصباح الموالي أو بعد يومين أو أسبوع؟!

لا زال قطاع الشؤون الاجتماعية هو الآخر عاجزا عن تجفيف مصادر تموين سوق الجريمة بالمجرمين، وذلك بتركه لظاهرة أطفال الشارع دون معالجة، فكل واحد من هؤلاء الأطفال هو نواة لمجرم مستقبلي، لا لأنه يريد أو ذووه يريدون، وإنما الظروف التي هو فيها هي التي تهيئه وتسلك به ذلك الطريق، ونسمع دوما عن ورشات حول دمج الأطفال المتنازعين مع القانون، وأخرى عن أولائك الفاقدين للسند العائلي، لكننا لم نجد انعكاسا لكل تلك السياسات على وضعية أطفال الشوارع الذين لا زالوا في الشوارع مشردين ومتسولين وضائعين، وقد وهبهم الله لبعض المنظمات غير الحكومية تستخدمهم كوسيلة للحصول على الأموال من المنظمات الأجنبية على أساس أنها تقدم لهم الرعاية، وهي في الحقيقة لا تقدم لهم شيئا، ولا تراهم أو يرونها إلا عندما تجمع بعضهم في غرفة لحظة معاينة الجهة الممولة، لتعيدهم إلى مأواهم الأصلي الذي هو الشارع، وتبدأ في رحلة بحث جديدة عن من يمول لها أنشطة " لصالحهم " !

فإذا كانت هناك نية حقيقة في إنقاذ هؤلاء الأطفال من مستقبلهم المجهول والخطير عليهم وعلى المجتمع، فإن ذلك لن يكون إلا بجمعهم وتوزيعهم على محاظر داخل البلاد بعيدا عن المدينة وبيئة الانحراف والضياع، وذلك بالتنسيق مع ذويهم العاجزين ـ أو غير المهتمين ـ بتربيتهم ليتم التكفل بهم هناك، على أن تكون تلك المحاظر في مدن أو قرى بها مدارس نظامية ليزاوجوا بين التعليمين النظامي والمحظري، حتى إذا وصلوا مرحلة من التعليم يتم إلحاقهم بمراكز تكوين داخل البلاد أيضا، حتى لا يعودوا إلى المدينة إلا وهم مسلحون بتربية وأخلاق ومهارات تمكنهم من الاندماج في المجتمع بشكل مفيد وسليم، أما غير ذلك من الحلول فهو في اعتقادي مضيعة للوقت والجهد ولمستقبل هؤلاء الأطفال، ودفعهم لولوج الفرصة الوحيدة أمامهم وهي الجريمة. ولكي تكون هذه العملية مستديمة ومجدية، فإنه يلزم تشكيل لجان تضم ممثلين عن ذوي الأطفال والجهات المختصة تتابع أوضاعهم داخل المحاظر، وتمنع تسربهم وترصد أي ظهور لأطفال آخرين مشردين لتلحقهم بزملائهم.

لا حل كذلك لظاهرة انتشار الجريمة بالدوريات الأمنية الراجلة أو المحمولة كما يطالب البعض، ولا حتى بحراسة كل بيت وكل شارع وزقاق بفرقة أمنية، فعلاوة على كون تلك التدابير غير عملية وغير قابلة للإستدامة، فإنها تصلح فقط لحالات الطوارئ، لا لحالة اختلال أخلاقي وقيمي يسري في نسيج المجتمع! فالحل إذن هو بتطهير كبريات المدن من المجرمين أولا، إذ لا حل لظاهرة الجريمة ما دام للعدالة " باب خلفي " يخرج منه المجرمون المدانون.. ولا حل كذلك لهذا المشكل ما دام المجرمون المعروفون طلقاء في انتظار أن يرتكبوا جريمة! ألم يعترف مغتصبوا وقتلة الطفلة زينب أنهم إنما أحرقوها لأنها قالت لهم إنها تعرفهم وسوف تبلغ عنهم؟ تصوروا أن طفلة صغيرة تعرف مجرمي حيها كما تعرف أباها وأخوتها! لكل حي في المدينة مجرموه المعروفون الذين يختفون عنك لأيام لأنهم في قبضة الشرطة أو في أروقة العدالة، لكن ذلك هو لمجرد أيام أو أشهر فقط وإذا هم يتمايلون في الشارع إلى جنبك، فكيف يُترك مجرم صاحب أكثر من سابقة إجرامية حرا طليقا؟! المجرم وهو يمشي في الشارع أو نائما في بيته ليس تائبا ولا ناسكا ولا نادما، وإنما يخطط ويتحين الفرص ويرصد ويحدد الأهداف، كيف نُبقي أيضا على مساطر قوانين جنائية وضعت منذ عقود عندما كان عدد سكان المدينة لا يتجاوز خمسين ألفا، وسكانها كالأسرة الواحدة يعرف بعضهم بعضا، وعلى عهد قريب بالحياة الطبيعية الفطرية، ولا فضائيات ولا مغريات ؟! الظروف تغيرت والمدينة تمددت والجريمة تطورت والحياة تعقدت، ولا بد بالتالي من تحيين القوانين الجنائية وتكييفها مع الأوضاع الجديدة.

وكما اقترحنا جمع أطفال الشوارع والتكفل بهم في محاظر ومدارس داخل البلاد بعيدا عن بئة وأوساط الإجرام، فإننا نقترح أيضا جمع كل المجرمين المعروفين، المدانون منهم و أولائك الطلاقاء وعزلهم في سجون ومراكز تأهيل خارج المدينة، بحيث لا يغادر منهم السجن إلا من تم التأكد من تأهيله، بل ووضعه تحت الرقابة الصارمة بعد خروجه، وإلا فسنشهد مطلع كل يوم اغتصاب وحرق زينب أخرى، وقتل فاطمة واختطاف كمبا، وسلب محمود وتقطيع سيدي..! فالأمر يتطلب قدرا من الجدية والصرامة والمسؤولية لا زال غير مواكب لحجم الظاهرة، وقد كنا نسمع أنه في بعض البلدان هناك أحياء تصنفها السلطات الأمنية مناطق خطرة لا تدخلها الشرطة، ولا تتحمل مسؤولية ما يجري داخل حدودها، لم تعلن سلطاتنا الأمنية رسميا تلك المناطق بعد، لكننا نعتقد أن ذلك هو مسألة وقت فقط إذا استمر التعاطي مع المجرمين على حاله، فهناك أحياء من العاصمة اليوم لا يمكنك دخولها بعد الثامنة ليلا، وسكانها يقتنون كل حاجياتهم قبل غروب الشمس، ويدخلون حظرا قسريا للتجوال بسبب انتشار للصوص في شوارعها وأزقتها!

ينبغي أن لا نغفل أيضا أن دور الأمن الخارجي في الاستقرار وجلب الاستثمار، هو نفسه دور الأمن الداخلي والحفاظ على مستوى مقبول من السيطرة على الجريمة، فهاجس المستثمر والأجنبي عموما من الاعتداء ذي الطابع الإرهابي، هو نفسه هاجسه من الاعتداء بدافع السلب والإجرام، ولن يستثمر مستثمر في بلد إلا إذا كان سيقيم فيه أو يزوره لفترات، ولن يقيم في بلد لا يأمن فيه على نفسه وماله، فالمجرمون وهم يخططون وينفذون عملياتهم لا يفرقون بين مواطن وأجنبي. لا ينبغي كذلك ـ ونحن نجاهد لرفع المستوى المعيشي للمواطنين ـ أن نغفل أن تأمين أرواحهم وشرفهم وممتلكاتهم هو أيضا جزء أساسي من رفع مستوى معيشتهم .. فلا مستوى رفيعا ولا هنيئا للمعيشة مع الخوف ( فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

هذا ولأن لا جريمة إلا بمجرمين، والمجرمون هم نتاج لقصور في الجانب التربوي والتوعوي والتثقيفي، لذا فإن تطهير المدن من المجرمين الممارسين، وانتشال أطفال الشوارع باعتبارهم مجرمين صاعدين، ليسا سوى إجراءين أستعجاليين تمليهما المستجدات والظروف، لكن علاج الظاهرة من جذورها يتطلب مقاربة استثنائية تأخذ في الاعتبار الغياب التام لدور الأسر في توجيه سلوك ابنائها، مما يتطلب عملا تحسيسيا وتوعويا ضخما يستهدف هذه الأوساط، ولا أعول كثيرا ـ ولا قليلا ـ على برامج أسبوعية بقنوات أو إذاعات لا تتابعها ولا تستوعبها الشرائح المستهدفه، بل إن الأمر يتطلب طرق الأبواب بابا بابا من قبل المربين والخبراء الاجتماعيين، وجلسات لساعات مع المستهدفين حول انعكاسات وتبعات إهمال تربية الأطفال على ذويهم وعلى المجتمع وعلى الأطفال أنفسهم، مع الرقابة والمواكبة الدائمتين، إلى جانب ضرورة إخراج قرار إلزامية التمدرس من التجميد، وتطبيق العقوبات على الأسر غير الملتزمة به، فعندما كان ولد الطايع منهمكا في سياسية محو الأمية عن الكبار، كنا نقول إن الأولى تعليم وتأهيل الصغار، فلم تنمحي الأمية عن الكبار، وضاع صغار تلك الحقبة الذين هم مجرموا ومنحرفوا ولصوص اليوم!

محمدو ولد البخاري عابدين

خميس, 01/01/2015 - 11:18

          ​