مصر والفخ الدموي للثورة المضادة

"عندما لا تأخذ القوى المنظمة مكانها، يأخذ الاستبداد كل مكان"  لوي بلان

ـ1ـ من الواضح على الأقلّ الآن أنّ أحد أهمّ التّجلّيّات الّتي طفت على السّطح فيما يتعلّق بالمقارنة بين المسارين الثّوريّين في تونس ومصر تركّزت حول المؤسّسة العسكريّة في البلدين . فقد دفعت السّياسات المتتالية منذ أواخر القرن 19، قبل وخلال الاستعمار الفرنسيّ لتونس كما في الحقبة المابعد استعمارية، إلى تقليص دور المؤسّسة العسكريّة بشكل ممنهج. وهو ما سمح بتوازن أكثر بين المؤسسات الناشئة. على عكس ما عرفتْه تونس، بدا المسار المصريّ، على الأقلّ منذ دولة محمّد عليّ إلى الضّبّاط الأحرار والتّداعيات اللاّحقة، محكوما بمبدأ إعطاء المؤسّسة العسكريّة حجما مركزيّا ناظما لا يمكن لأيّ مؤسّسة أخرى داخل الدّولة أن تنافسه. بل إنّ البحوث الّتي تتناول تاريخ الجيش المصريّ في الخمسين سنة الأخيرة يبدو من خلالها أنّه ازداد توسّعا كمُـبَنْيَنٍ للدّولة في معطاها الشّامل بما في ذلك ما يتعلّق بالصُّعُد التّربويّة والاقتصاديّة. وهو ما ظلّ يتأكّد حتّى في المراحل الّتي يرى الباحثون أنّ هذا الرّئيس أو ذلك حاول فيها إبعاد العناصر النّافذة من الجيش عن مراكز القرار أو عن المؤسّسات الّتي يُـفترض أنّها مدنيّة .

 

ـ2ـ

 نفهم هنا إذا لماذا كانت التّجربة التونسيّة بالغة الأهمّيّة في انطلاق الثّورة المصريّة. كما نفهم أنّها نجحت في خلق مناخ لم ينجح فيه مسلسل التّمرّد المدنيّ الذي عرفتْه مصر في سنوات الرئيس مبارك الأخيرة.  استطاع نظام الأخير أن ينجح دائما في احتواء هذا المسلسل في حدود معيّنة قبل أن تطفو مؤثّرات الثّورة التّونسيّة. ولعلّ من بين العناصر الأكثر بروزا فيما يتعلّق باستثمار الثّورة التّونسيّة في السّياق المصريّ هي استراتيجيّة محاولة تحييد الجيش المصريّ ولو مرحليّا. بشكل من الأشكال فإنّ ما يسمّى أحيانا بتقنية الثّورة تمّ استبطانه من قبل الحشود التّونسيّة ثمّ من قبل الحشود المصريّة وذلك من حيث يتعلّق الأمر بتقنية مواجهة الأنظمة عبر مراحل فكّ قبضتها وفصلها جزئيّا أو كلّيّا عن المؤسّسة الّتي تحتكر استخدام العنف. يظهر في هذا السّياق جلّيّا معنى أن تميل الحشود بشكل نصف تلقائيّ ونصف مبرمج إلى أن تُـظهر نوعا من الاحتفاء بالجيش مرحليّا في مقابل الشّحنة القدحيّة الموجّهة إلى الجهاز الأمنيّ والبوليسيّ

 

ـ3ـ

يبدو في هذا السّياق وكأنّ الثّورة المضادّة قد وجدتْ الوقت الكافي لاستيعاب هذا المسار ولاستخدام نفس التّقنية لتقويض المسار الثّوريّ المصري. فقد بدا أنّ الثّورة المضادّة في مصر قد قادت مسارين متوازيين أحدهما تجميع مكوّنات النّظام القديم  ومنحها لحمة جديدة عبر قاطرة المؤسّسة العسكريّة كهيكل مركزيّ للدّولة الموروثة. ولكن أيضا من خلال المسار الموازي عبر خلق صلات مباشرة وغير مباشرة إيجابيّة مع أجزاء من القوى الثّوريّة خصوصا تلك الّتي تمّ تهميشها بعد وصول الرّئيس مرسي إلى السّلطة. فعدم تركيز نظام الرّئيس مرسي على الحفاظ على الزّخم الثّوريّ الّذي يستمدّ منه شرعيّته قد آل كما يحدث تقليديّا إلى تفكّك الشّرعيّة الثّوريّة. ومن ثمّ كان من السّهل على الثّورة المضادّة أن تُظهر ـ بشكل تكتيكي مبرمج ـ نوعا من الاحتفاء المؤقت بالفئات الثّوريّة الّتي بدتْ فجأة خارج المسار منذ الانتقال السّريع من المسار الثّوريّ إلى مسار الاقتراع.

 

ـ4ـ

من المهمّ أن نطرح في هذا السّياق السّؤال التّقليديّ حول إمكانيّة اعتبار مصر دولة موروثة عن الاستعمار كبقية الدول العربية وأغلب دول ما كان يعرف بالعالم الثالث . بمعنى آخر من المهمّ أن نتساءل إلى أيّ درجة تمثّلُ مؤسّساتها استمرارا لما قبل الحملة الفرنسيّة وتاليّا الفترة الإنجليزيّة . حتّى لو افترضنا أنّ دولة محمّد عليّ في أسسها العثمانية هي قطيعة وتجديد معا لما قبل الحملة الفرنسيّة فإنّه من العسير أن يُنْظَر إلى ما بعد المرحلة البريطانيّة على أنّه يمثّل تماما استمرارا مؤسِّسِيّا  لما قبل 1881م . بشكل من الأشكال عرفتْ مصر استمرارا اسميّا عرفته دول عالَمْثَالِثِيَّة كثيرة أخرى بالرّغم من أنّ هذه الدّول قد أصبحت مؤسَّسِيّا دولا موروثة عن الاستعمار.

ـ5ـ

غير أنّ ما يمكن استخلاصه من الدّراسات المتوفّرة حول تاريخ المؤسّسات المصريّة يمكن تفسيره بالقول إنّ الدّولة المصريّة في مؤسّساتها هي عبارة عن مزيج بين مستويين : مستوى تاريخيّ ومستوى موروث عن المرحلة الاستعماريّة بالمعنى الواسع. ويمكن أن نفترض في غياب دراسات كافية لإثبات ذلك أنّ هذه البنية التّركيبيّة تميّز مصر عن بقيّة الدّول العربيّة وأنّها تفسّر جزئيّا تأخّر تحديث البنى الاقتصاديّة في مصر حتّى عن بعض الدّول العربيّة الأخرى رغم ما أتيح لهذا البلد من محاولات تحديثيّة مبكّرة كما هو معروف منذ أواخر القرن 18. في جميع الأحوال فإنّ المسار الّذي ساق مصر إلى تضخّم المؤسّسة العسكريّة على حساب المؤسّسات الأخرى هو أمر يحتاج إلى مراجعة طويلة النّفس لفهم ممكنات التّحوّل في هذا البلد المحوري. ولسبر احتمالات الخروج من الفخ الدموي الذي تمثله الثورة المضادة الحالية.

 

د. محمد بدي ابنو*

سبت, 07/02/2015 - 17:06

          ​