الأستاذ ولد محم .. ودردشة مع الذين آمنوا / جعفر محمود

الشهادة على التاريخ أمر في غاية الصعوبة والحساسية وأصعب أنواع الشهادات ، الشهادة على تاريخ الحركات والأفكار والإيديولوجيات ، لتنوع أسرارها وتعدد الأدراج التي تدفن فيها أحداثها وملفاتها السرية ، وما يواكب مسار أي حركة من انتقالات وتحولات وتقلبات في الرؤية ومراجعات للأفكار على أساسه تتغير المواقف وتتبدل المواقع.

 

والشهادة على هذا النوع من التاريخ تتطلب شرطين أساسين شرط موضوعي وشرط ذاتي :
الموضوعي ويشترط أن تتشكل مسافة من الزمن طويلة تسمح لأحداث معينة بالخروج من الذاكرة ، وتحتاج الأجيال الراهنة لشهادة عليها بما هي ماضي تم تجاوزه ، ولم يعد ذا تأثير كبير في المشهد المعاصر ، وعدم الإلتزام بهذا الشرط يلغي الشهادة على الماضي ويحولها لمجرد نقد للواقع أو قراءة للأحداث إستنادا لمقاربات تاريخية .. هذا الشرط يقود لنقاش منهجي كبير حول ماهية التاريخ وما هو التاريخ ، والفرق بين التاريخ وبين علم الماضي فكل الموجودات _ بشرا حجرا جماعات أفرادا _ لديهم ماضي لكن لايعني هذا وجود تاريخ .. التاريخ مؤثر في الحاضر ومستمر يحدث في الماضي لكنه جاري و مستمر في الحاضر.. التاريخ بهذا المعنى ليس هو الماضي ابدا وليس هو علم الماضي ، الذكريات هي علم الماضي ، ولايمكن القبول لكل صاحب ذكريات أن يحولها لتاريخ .. هذا الكلام يجعل من الصعوبة بمكان على بعض الحركات السياسية في البلد الكلام عن التاريخ.. التاريخ لايصنع بالخطابة ولا بالملكات اللغوية ومحاولات فرض تاريخ على هذا الاساس تمييع للذاكرة الجمعية .
الشرط الثاني شرط ذاتي ويستند على الشرط الأول الموضوعي .. ويتطلب هذا الشرط من صاحب الشهادة على التاريخ أن يكون هو نفسه خرج من الأحداث وخرج من تفاعلاتها ، مايمنحه شخصيا قدرة أكبر على تناول الحدث دون كبير تفاعل سلبا أو إيجابا ، ويمنح للقارئ أو المستمع فرصة أكبر لإفتراض الحياد والنزاهة مبعثه خروج صاحب الشهادة من الأحداث ومن دائرة الفعل ، هذا الشرط يلغي قدرة الكثيرين على المستوى الوطني من إدلاء شهادات تاريخية .. قلة هم من يستطيعون ذلك ويعدون على رؤوس الأصابع .


هذا الحديث جاء نتيجة للشهادات والقراءات التاريخية التي بدأت تقدم من خلال برنامج الصحفي الشيخ ولد سيدي عبد الله كقراءات في التاريخ السياسي ، وبدأ يترتب عليها نقاش وتجاذب على مستوى مجتمع معروف بتوتر علاقته مع التاريخ ومع الماضي .. آخر هذه الشهادات مع الاستاذ محمد جميل منصور ليلة البارحة، وماكاد الأستاذ يعلق بسخريته المعهودة على إحدى الوثائق حتى تحول التعليق لحرب مفتوحة وموجهة ضد الأستاذ سيد محمد ولد محم ، واطلق "هاشتاك" إلكتروني بعنوان "ولد محم ليس من الذين آمنوا" .. هذه العدوانية الجاهزة تجاه الأستاذ ولد محم مصدرها تمييع الماضي واللعب بالتاريخ وبالذاكرة ، وتصفية الخلاف والخصومة السياسية الحالية بمنطق التاريخ .. لا اعرف كثيرا عن وثيقة الذين آمنوا ولاتعنيني ، لكني اعرف أن الأمير الحسن ولد مولاي أعلي قال أنها كانت في منتصف الثمانينات وولد منصور قال بداية التسعينات ، وقد يجيء آخر ويعطيها تاريخا مغايرا للإثنين هذه مشكلة الماضي الذي لم يحسم والملفات التي لم تغلق ولم تصبح بعد تاريخ هي مجرد ماضي ، لانها ذكريات فردية وخواطر ولاقيمة لها في الحاضر بالتالي ضبطها والتدقيق فيها ليس ذا قيمة حتى لأصحابها وفاعليها ، ووثيقة فشل أصحابها في ضبط تاريخها لاشك فاشلون في معرفة موقعيها ومتبنيها ..

 

كما أعرف أيضا أن محاولات تصفية الخصوم من خلال اللعب بالماضي والتحكم في تفاصيله لاتنجح ولاتستمر ، والشهادات المتتالية أثبتت تفاهة ذلك أكثر من مرة ، ابسطها الشهادة المقدمة مؤخرا أن الشيخ الددو هو من وقع نيابة عن الإصلاحيين الوسطيين وثيقة دعم ولد هيدالة والتحالف معه ، هذا الأمر الذي اشتغل البعض على رفضه وظل يكابر ويتهم النظام الماضي بتلفيق التهمة واستهداف العلماء المتفرغين للدعوة والرافضين المشاركة في السياسية ..تزوير الحقائق لايستمر وشيطنة الأحداث تكشف طال الزمن أو قصر.
الأستاذ سيدي محمد ولد محم رجل من الذين آمنوا رغم أنف النكتة السمجة للاستاذ جميل منصور ورغم انف الهاشتاك الإفتراضي ..ورغم أنف من يقف خلف الهاشتاك .. على الأقل الإيمان ليس ملكا شخصيا وليس حدثا ماضيا يسعى بعضهم لتفصيله على مقاسات معينة .. لازال الإيمان لحد الساعة خارج دائرة التخصيص الحركي والضبط الحزبي ، ومحاولات التنكيت بغية إخراج ولد محم من دور سابق لعبه أو من مسيرة كان جزءا منها هو عمل صبياني ولايمكن له تغيير الأحداث أو إلغاء الماضي.


لايستطيع أحد مهما كانت ملكاته الخطابية واللغوية والمسرحية وحتى الفيزيائية التي تختزل الزمن والمسافات (المرور بثلاث مقاطعات في اقل من ساعتين على الأقدام سرعة الضوء) أن يخرج ولد محم من تفاصيل مشهد سياسي ودعوي وحركي كان رجله الأبرز ووجهه الألمع في كل الميادين وفي كل المناسبات ، ولايستطيع اي قارئ منصف للحدث السياسي والنضالي من بداية الثمانينات إلى اليوم أن يتجاوز ولد محم في دراسته للحركة الإسلامية نتاجها وقادتها ورموزها .. لايستطيع أحد أن يتجاهل دوره ومستواه المعرفي وإيمانه بالمشروع الحضاري الذي ارتضاه ،لايستطيع أحد أن ينكر تضحياته في سبيل ذلك .ولد محم يا أيها الذين أمنوا .. من الذين آمنوا لكنه من نوع منهم نادر وقليل لا يسأل عن أشياء إن تبد تسؤ ،

من نوع يكظم الغيظ ويعفي عن الناس ، من نوع لايلعب بالماضي ولايتاجر به، ويعي جيدا درس التاريخ والفرق بينه وبين البطولات الشخصية ، ولايستعرض بديماغوجية ملكاته الخطابية ويبتز بها الزمن ويصنع منها تاريخا ، من نوع يحترم الذاكرة المشتركة ويحترم ماضي النضال وماضي الكتابة على الجدران وماضي المناشير ، وماضي التنظير الحالم والطموح بريادة العالم ، من نوع لايصنع ميليشيات تهاجم الناس وتتهمهم وتطعن فيهم .. من نوع يعي أن اللحظة هي إمتداد للماضي واستشراف للمستقبل .. ومن يريد أن يكون له مستقبل عليه أن يحترم اللحظة ..هذا أهم دروس التاريخ يا أيها الذين آمنوا .

اثنين, 16/02/2015 - 08:56

          ​