منزلة الشعر بين الفنون

في بعض دراسات لي حول الفن وبعض مذاهبه في الشعر العربي مضيت أقرر أن الشعر قوامه على عنصرين أساسيين هما اللفظ والمعنى. ثم ذهبت في شرح ذلك مذهباً قد لا أرتضيه الآن. على أن هذا التقسيم وإن كان صحيحاً في أساسه وتسلم ببداهته بعض المدارس النقدية في التحليل ـ قديماً وحديثاً ـ لا يخلو من إشكال. فهو مثلاً لا يعطي صورة صادقة للأسلوب الناجم عن ائتلاف الألفاظ على نحو خاص، ولا يعلل السحر في الشعر تعليلاً صحيحاً، كما أنه لا يستطيع أن يميز بدقة بين مختلف مذاهب التعبير. وكيف يمكن الفصل بين هذين العنصرين بفرض وجودهما مستقلين وهما ليس كذلك، أو إقامة الحاجز بين اللفظ والمعنى باعتبار أنّ كلاً منهما عنصر قائم بذاته على انفراد مع أنهما في الحقيقة شيء واحد.هذا ما كان يعييني التفكير فيه مدة من الزمن حتى تبين لي أخيراً أن الألفاظ ليست سوى رموز ـ رموز من عدة نواح لا ناحية واحدة ـ نستطيع أن نستجلي من ورائها صور هذه المعاني التي نتخيلها ـ وكلّ حسب ذوقه ـ كلما رتلنا ما يتحفنا به الشعراء من آيات. فالصلة القائمة بين اللفظ والمعنى هي في الواقع صلة الروح بالجسد الحي إن صح هذا التعبير. فلو عدم اللفظ أية صلة بالمعنى القائم في الذهن لأصبح لغواً فارغاً. ولو عدم المعنى ما يمثل صورته في الأذهان من الألفاظ لكان «لا شيء».والواقع أن الذين يفرقون بين اللفظ والمعنى لا يفعلون ذلك لمجرد أنهم يعتبرون أن كلاً من هذين العنصرين قائم بذاته على انفراد، وإنما تمهيداً لدراسة هذه الصلة القائمة بينهما دراسة فنية دقيقة. لولا أن هذه الدراسة تقف ببعضهم عند حد الخلاف، وتقصر بالآخرين عن تجاوزها إلى نواح أخرى لا تقل أهمية في معرض التحليل.فاللفظ من حيث هو مجرد كلمة، يتألف قبل كل شيء من هذه الحروف التي ترمز إلى أصوات بعينها. وانسجام هذه الأصوات أو تنافرها يتيح للفظ قيمة موسيقية لها أثرها في مجال التعبير. على أن هذه القيمة الموسيقية ـ كما يجب أن نفهم دائماً ـ لا تقتصر على اللفظ المفرد، وإن صحّ انفراده بها في بعض الأحيان، وإنما هي في الشعر بصورة خاصة تتجاوزه ـ انحساراً أو اندماجاً ـ إلى البيت جملة، من حيث هو كلام موزون ينتظم عدة ألفاظ في سلك واحد (…)ونحن إذا جاوزنا اللفظ إلى المعنى، فإن المعاني الشعرية ليس من السهل تحليلها إلى عناصرها الأولى. فإذا حاولنا ذلك فعلى شريطة ألا نفهم منه أن هذه المعاني يمكن أن تتمثل صورتها في الأذهان بدون ألفاظها. ونحن إذا قلنا المعاني الشعرية لم نعن سوى هذا الأثر الفني الناجم عن نظرة الشاعر إلى الحياة وموقفه منها، في ألفاظه الخاصة. وقد ذهب النقاد منذ القديم مذاهب مختلفة ـ بين مشرق ومغرب ـ في تعرّف هذه العناصر التي تدخل في تكوين الشعر، وتعريفها. ولم يتفق لهم رأي حتى الآن على طول الأخذ والرد. وهي في الحقيقة لا تتجاوز عناصر ثلاثة: الموسيقى، العاطفة، الخيال. ويمكن إضافة عنصر رابع هو اللون.على أن هذه العناصر ـ إذا وجدت معاً ـ لا تستقل كل منها بالعمل على إثبات وجودها منفردة. كما أن وجود أحدها لا يستلزم وجود الآخر، وإنما تتماوج في أسلوب الشاعر ـ حيث وجدت ـ كما تتماوج الحياة نفسها في الجسم الحي. فكما أن لباس العافية يسبغ على الجسم من صفات الحركة والقوة والإشراق ما يجعله خليقاً بالفتنة، فكذلك يتم تبلور هذه العناصر بانصهارها في هذا الأسلوب ـ على نسب خاصة ـ لتصبح علماً على الشاعر ومظهراً لشخصيته وجزءاً لا يتجزأ من آية فتونه.وإذا قلنا أنها تتماوج جميعها متضافرة في أسلوب الشاعر، لم يستلزم قولنا هذا وجودها دائماً متضافرة في آن. فالجسم الحي قد لا تراه متحركاً وإن كانت الحركة أكبر دليل على الحياة (الموسيقى). أو قد لا يتوفر فيه النشاط لتوجيه هذه الحركة وتنظيمها لعلة طارئة، وإن كان مستوفزاً لها بفضل حيويته (الخيال). أو قد لا ينتظم بهذا الإشراق النفسي في محيط دائرته اذا كان الإشراق لا يعدو كونه انعكاس ما في مرآة القلب من صفاء وإشعاع (العاطفة). وأخيراً فإن الجسم قد لا تراه العيون وردي البشرة مثلاً وإن كان متوفر النشاط مشرق القسمات. فهي إنما تكون وشاح الصحة الخارجي في شباب الأجسام (اللون).ومع ذلك فإن الحركة والقوة والإشراق (مضافاً إليها الحمرة) هي صفات يجوز أن تتصف بها ـ مجتمعة ـ الأجسام المستكملة لأسباب صحتها، فتتسم في مظهرها الخارجي ـ على تنوع هذا المظهر ـ بما ندعوه بالجمال. تلك الكلمة الغامضة المدلول التي إن دلت على شيء فعلى صفة مشتركة نحس بها في هذه الأجسام دون أن نستطيع لها تحديداً، على حد قول اسحق الموصلي في ظروف لها دلالتها، «تحيط بها المعرفة ولا تحدها الصفة».وتماثل الشعر مع الأجسام الحية في هذه الصفة هو مصدر ما نسمع من قولهم ان الشعر يبعث في النفوس هزة. فهي لو تأملنا أشبه ما تكون بالهزة التي نشعر بها ـ في حال الصحة ـ أمام الجسم الجميل.فإذا لم يتم هذا الانصهار بحيث يستقل هذا العنصر أو ذاك وحده بأسلوب الشاعر على حساب العناصر الباقية، كان من جراء ذلك هذا النقص الحيوي الذي نلمس أثره في الكثرة الغالبة من نتاج العصور مما تكتظ به بطون الكتب والمجلات في كل عهد ومكان، والتي لا تبعث حتى في ناظميها هذه الهزة، لأنها تعدم صفة «الجمال» بهذا المعنى المفهوم.

مجلة «الأديب»، العددان 11 و12، 1947

جسر بين الثقافات

شاءت المصادفة السعيدة أن يولد الأديب البحريني إبراهيم العريض (1908 ـ 2002) في مدينة بومباي الهندية، حيث كان والده يعمل هناك في تجارة اللؤلؤ؛ فكانت المدينة حاضنة أتاحت تشرّبه بثقافات آسيوية وإسلامية، هندية وفارسية، وجعلته ذات يوم بين أفضل مترجمي رباعيات عمر الخيام، عن مخطوط فارسي أصلي. مصادفة ثانية، فاجعة هذه المرّة، اقتضت أن يذوق العريض مرارة اليتم في سنّ الرابعة، حين توفيت والدته، وتولت حضانته مربية هندية؛ فكانت هذه فرصة إضافية لكي تتأصل علاقته بالثقافات الآسيوية. وحين عاد إلى البحرين، للمرّة الأولى سنة 1922، كان الشعر هو الغواية الكبرى، فكتب فيه، ونظّر له، وساجل حوله مع أسماء لامعة في زمانها، من أحمد شوقي إلى ميخائيل نعيمة، ومن محمد مهدي الجواهري إلى نازك الملائكة.أصدر العريض مجموعته الشعرية الأولى «العرائس» سنة 1946، ثم تعاقبت المجموعات: «قبلتان»، «أرض الشهداء»، «شموع»، «يا أنتَ»، «في هيكل الحبّ»، و»الذكرى»؛ فضلاً، بالطبع، عن «رباعيات الخيام»، و»الخياميات». كما كتب شعراً باللغة الأوردية، وآخر بالإنكليزية، وأصدر مسرحيتين، «وا معتصماه»، 1932؛ و»بين دولتين»، 1934. وللعريض أعمال نقدية لافتة، لعلّ أبرزها «الأساليب الشعرية»، «الشعر والفنون الجميلة»، «فنّ المتنبي بعد ألف عام»، و»الدراسات الفنية عند مترجمي الخيام».إنصاف العريض يقتضي أن تُعاد قراءته، شعراً ونثراً وتنظيراً أدبياً، ليس بوصفه رائداً أدبياً على صعيد الخليج العربي، فحسب؛ بل كذلك لأنه سعى إلى مدّ الجسور بين الثقافة العربية وجاراتها في الهند وبلاد فارس. وكان، بحقّ، رائداً لم يكذب أهلَه، على الضفتين.

نصّ: إبراهيم العريض

سبت, 21/02/2015 - 23:36

          ​