بيرام: من الدفاع عن الحقوق إلى الاندفاع نحو الحكم

أطفال بثياب رثة يسوقون حُمرا لجلب قطرات ماء من مكان قصي، أو وراء غنيمات في مفازة جرداء قاحلة ، أو وجوههم معفرة من التراب والطين، وهم يصلحون الارض. ونسوة أنهكهن النصب والغصب، يحملن فلذات أكبادهن وراء ظهورهن، غير مكتراث بالقيظ ولا لفحات الشمس الحارقة، يجهدن في الخدمة والطاعة، ولا يمنن يستكثرن، ولا يشتكين يستزدن، ورجال يبيتون الطوي، ويظلونه، متجلدين صابرين، مستبشرين مع ذلك غير وجمين، لا يشكون ولا يتظلمون، ولا يحملون حقدا ولا ضغينة.

هذا، للاسف بضع يسير من واقع "لحراطين" بالأمس، ومن واقعهم اليوم. ودخلت أنت ، بيرامه، إلى خط الوجود، فاستثارك هذا الحال المزري، كما استثار آخرين من قبلك. فأخذت حبالك وعصيك، وانطلقت تعدو في مسيرة الحقوق، ورفع المظالم، والدعوة إلى انتشال "لحراطين" من التهميش والفقر والغبن، وجعلهم يتبوءون مكانهم المستحق في الدولة والمجتمع.

 

ابتدأت مسارك. لم يك المسار حقوقيا خالصا. اخذت في السياسة حينا أيام ولد الطايع في منعطفه الأخير. وربما تدافع المتزلفين لم يترك لك مكانا، فما حظيت الحظوة التي كنت تريد. وربما غاظك قدرة آخرين من بني عمك على ايجاد مواقع لهم، فكنت مرتابا وحائرا لا تجرؤ على تقديم رجل ولا تأخير اخري حتى جاء الخلاص من ولد الطايع وأيامه العجاف. وفي الفترة الانتقالية، أصابك الذي اصاب أبناء وطنك، فكانت الريبة والشك على كل الوجوه. واخترت الاصطفاف مع الزين ولد زيدان، لظنك أنه يحمل البشري لك ولطموحك. فأحالك إلى دعم المرشح سيد محمد ولد الشيخ عبد الله الذي وصل إلى الحكم.لكن وللاسف، اقتطف مسعود في اتفاقه مع ولد الشيخ عبد الله كل الثمار، فما ترك للصاعدين من أمثالك شيئا، واستأثر بكل المناصب له ولجماعته. فاحسست ببعض الغبن والخيانة، فأهاج ذلك في نفسك ثورة عارمة، تركت على اثرها السياسة إلى حين.واندفعت في الجانب الحقوقي من 2008 مع الاعلان عن حركتك الانعتاقية، والتي لم تلق أي اعتراف رسمي. فلم يوهنك ذلك. وانتشر خبرك في الافاق، فسمع الناس به. فأخذ فريق يمتدحك ويزكيك، وآخر يثلمك ويستنقصك. ووجهت رجالاتك في أول الامر، ففتشوا المنازل بحثا عن الفتيات القصر الخادمات. وتعارك رجالك مع البوليس في عدة مناسبات حول الامر. وصارت كل موريتانيا وجلة خائفة منك ومن رجالك ودورياتهم في الشوارع. وتعطل عمل الخادمات في المنازل،،لقد نسيت، يا بيرامه، أن هذه جزئية قليلة من مشكلة بنيوية اجتماعية معقدة. لا تأتي الحلول من خلال تعطيل مصادر عيش، إنما تأتي من خلال بنية تنموية شاملة تأخذ في الاعتبار التعليم والصحة، والماء والطرق. فهذه هي الطريق..

 

 

لقد أصبحت ،من الآن، من الوجوه البارزة على المستوي الوطني، فالأحاديث لا تنفك عن ذكرك وتعقبك، وصرت على كل لسان وفي كل زاوية. فكم من وجوه بريئة من أطفال استبشرت خيرا بهذا "المخلص".فكم من ناس سمعوا اخبارك، وتلقفوا أثارك، فمنهم من صفق لك من غير أن يراك، ومنهم من غمطك دون ان تحفل به.وجلت في اوروبة، وحضرت الكثير من الملتقيات والفعاليات، وفي كل مرة تحمل بشدة على الظلم والحرمان التي يعيشها اخوتنا لحراطين.وقد قرأت لك مقابلة مع صحيفة الباييس الاسبانية اجرتها معك خلال مرورك ببرشلونة في صيف 2010، فتحاملت على ما سميته النظام الاقطاعي الاستعبادي. وحملته المسئولية في كل ما حل بلحراطين من ظلم وتخلف وتهميش. وكانت لغتك حادة، تتطاير منها شرارة الفتنة الحمراء، ودعوة صريحة للعنف وسفك الدماء.

 

 

وتقدمت رويدا، فجاء يوم الحرق. فأحرقت امهات المذهب المالكي. فغرقت موريتانيا كلها في غضب وحزن. وعمت المظاهرات التي كانت بريئة في الاول، فاستحالت غير ذلك في الايام التالية. وتم القبض عليك، وواجهت سجانيك بكثير من القول والجدل. فما عرفوا كيف يتخلصوا منك ومن جدلك، فلبثت في السجن بعض الوقت، واطلق سراحك. فما وجدوا مسوغا لمكوثك في السجن، وقد إرتأوا ان يطلقوك حتى لا يكون سجنك ومعاناتك سببا لثورة ما. او ربما تفاديا للحرج، فنحن صرنا لا نواجه الامر كما يجب. وهناك بعض المواربة والتواني، في التعاطي مع مسألة لحراطين، لانها حساسة وكما نقول في الحسانية: فيه لَعظامْ.

 

 

فجأة، تركت السعي في الحقوق، وإذا بك تعلن المشاركة في السباق الرئاسي من الايام الاولي، حتى قبل أن يعلن أي مرشح ترشحه. ترى، مالذي استجد حتى تكون من المسارعين إلى قطف الثمار؟ أتذكر حال بعض من اخوتك واخوتنا، وخصوصا في الصيف القائظ. هناك في سهوب وسهول آفطوط، هناك في منحدرات وتلال الحوضين وحوالي الحدود والنهر، هناك الكثير من الجياع، هناك الكثير من الصابرين، هناك الكثير من الاطفال المنهكين البرآء يلهثون في الاودية وراء شاء غنم هزيلة، وفي الاكواخ التي من طين، هناك نسوة وجوهن مغبرة معفرة، يتعففن ولا يسألن، وإن مررت بهن أطعمنك واسقينك.

 

سيدي بيرامه، إن حال "لحراطين" بالامس، هو حالهم اليوم، لم يتغير إلا القليل. فلاتزال آدوابة قائمة، بناسها، وجوعها وتهميشها،وعطشها. هناك لا ماء لا خبز، ولا حتى ظل. فما لذي حصل حتى تنزع عمامة الحقوق وتستبدلها بعمامة السياسة؟

 

دفاعك عن هؤلاء في محله، وعلى كل ذي عقل أو ضمير أن يكون هذا شأنه. وكان حريا لو لبثت قليلا، فتأخرت عن ولوج السياسية حتى لا تكون متهافتا ووصوليا.أما وقد فعلت، فقد خسرت الرهان إلى الابد.ولن يعود بامكانك ركوب معاناة الآخرين والوصول بها إلى غاياتك.في السياسة أنانية... في السياسة نكوص....في السياسة تراجع....في السياسة تكتيك.. أما سبيل الحقوق فغير سبيل السياسة، انت حر، انت غير مقيد، انت تبادر، انت منطلق. وقد قيدت نفسك، فأصبحت في القيود التي كنت تسعي ليتخلص منها الآخرون.

 

بقلم: سيد احمد ولد اعمر ولد محم، كاتب صحفي

 

خميس, 05/06/2014 - 08:46

          ​