دردشة حول ليالي معتصمي المعهد العالي (2012) "البكاي باب احمد البكاي

ذَكَّرني "الفيس بوك" صباح أول أمس 28 من مارس "بمنشور فيسبوكي" كنتُ نَشرتُه في نفس اليوم من سنة 2012 عنونتُه حينها بـ "دردشة حول ليالي معتصمي المعهد"، ويصفُ المنشور جانبا من أحاديث المعتصمين الطلبة في خيمةٍ كانت مضروبة لهم في باحة المعهد طيلة أشهرِ الإضراب وقتها... ولأن الأدب لا تَفسدُ صلاحياته، ولا ينتهي تاريخه، رأيت نشرَه مجدداً:  

  حين يُخَيِّم الظلامُ المشفوع أحيانا بضوء القمر يتحلق القومُ في جلسة أدبية رائعة تَتَعانقُ فيها مفردات النضال مع لمسات الشعراء الإبداعية في ليلة نابغية من ليالي المتنبي عند الظاعنين... يتصفحون خلالها ديوان الحماسة -طبعا عن ظهر قلب-، ويقضون مع الشافعي ردحًا من الزمن في ديار بني هذيل، ينشدون معهم رقيق شعرهم، ثم يحزمون أمتعهم باتجاه حَلَب الشهباء مرددين مع المتنبي :

كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل.

فَتستقبلهم حلبُ وتُرحّبُ، ويدُلُّهم أهلها على بلاطِ سيف الدولة، فيجدون عنده المتنبي، ويقضون معه أياما يصححون عليه فيها ما ينشدون -مع الدهر- من شعره الذي يسهرون على تفكيك مفرداته بينما ينام أبو الطيب مِلْء جفونهِ عن شَواردهَا...

لتكونَ مَحطّتهم القادمة بغداد مع أبي تمام، يستهلمون منه النسب بين أيام المعتصم وأيام بدر، وتُظل شجرة النسب الوارفة أيامهم هذه ليصلوا رحِمَ ثلاثي الأيام. ويستعيرون أيضا من أبي تمام أن النضال أصدق أنباءً من أنباء "الوكالة الموريتانية للأنباء" حين تنشر كلام وزير الشؤون الإسلامية بخصوص وضع المعهد.. ذلك الكلام الذي لا يتبين جدّه من لعبه...

وجهة القوم الأخيرة هي أرض شنقيط، ربع عزة الأدباء ومحطّ رحالهم، وفي أرض المنارة والرباط اختاروا أن يكون البدء من صحراء تيرس، حيث ابن الطلبة يتحدث عن جبالها ووهادها وجمال أهلها، فيقول:

أيا برقا تبسم عن أقاح               .. ويا غصنا يميل مع الرياح..

جمالك والمقبل والثنايا ..        صباح في صباح في صباح

. ثم يُيمِّمون أوجههم شَطرَ منطقة القبلة، ليشربوا الشايَ مع محمد ولد ابن فوق رابية من روابي أرض العقل، يبث لهم أشجانه وأحزانه، ويَصفُ لهم طيف الخيال الذي ألَمَّ به في قالب شعري رقيق:

أهاجت لك الأحزان لمحة بارق ... وطيف خيالٍ من أميمةَ طارقِ..

وذكرة أيام الهوى عند ذي الهُوى ... لياليَ لا أخشى طروق الطوارقِ

لياليَ طاب الوصل فيها لواصل ... وأينع دوح العشق فيها لعاشقِ.

وما إن يتناولوا كأس ولد ابن الثالث، حتى تتجه أنظارهم صوب "العارِفِ"... وفي طريقهم إليه يجدون امحمد ولد أحمد يوره يسائل -بطريقة غير بريئة- عن مكانه، فيواصلون السير معه حتى يقفوا على تلَّة "العارف"، ويبصروا مضارب خيام أهله وحينها ينشدهم امحمد وآثار الدمع بادية على جفونه:

أتامَن مكر البين وهو مخوف ... وتمسك دمع العين وهو ذروف

تكلَّم منا البعض والبعض ساكت ... غداة افترقنا والوداع صنوف

فآلت بنا الأحوال آخر وقفة ... إلى كلمات ما لهن حروف

حلفت يمينا لست فيها بحانث ... لأني بعقبى الحانثين عروف

لئن وقف الدمع الذي كان جاريا ... لثَمّ أمور ما لهن وقوف

فكأن القوم في مجلسهم هذا سُمّار ابن الشيخ سيديا الذين قال عنهم:

وَكَمْ سَامَرْتُ سُمَّارًا فُتُوًّا ... إِلَى الْمَجْدِ انتَمَوْا مِن مَّحْتِدَيْنِ

حَوَوْا أَدَبًا عَلَى حَسَبٍ فَدَاسُوا ... أَدِيمَ الْفَرْقَدَيْنِ بأَخْمصَيْنِ

أُذَاكِرُ جَمْعَهُمْ وَيُذَاكِرُونِي ... بِكُلِّ تَخَالُفٍ فِي مَذْهَبَيْنِ

كَخُلْفِ اللَّيْثِ وَالنُّعْمَانِ طَوْرًا... وَخُلْفِ الْأَشْعَرِيِّ مَعَ الْجُوَيْنِي

وَأَوْرَادِ الْجُنَيْدِ وَفِرْقَتَيْهِ ... إِذَا وَرَدُوا شَرَابَ الْمَشْرَبَيْنِ

وَأَقْوَالِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوِيهٍ ... وَأَهْلَيْ كُوفَةٍ وَالْأَخْفَشَيْنِ

نُوَضِّحُ حَيْثُ تَلْتَبِسُ الْمَعَانِي ... دَقِيقَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ

وَأطْوَارًا نَمِيلُ لِذِكْرِ دَارَا ... وَكِسْرَى الْفَارِسِيِّ وَذِي رُعَيْنِ

وَنَحْوَ السِّتَّةِ الشُّعَرَاءِ نَنْحُو ... وَنَحْوَ مُهَلْهلٍ وَمُرَقَّشَيْنِ

وَشِعْرَ الْأَعْمَيَيْنِ إِذَا أرَدْنَا ... وَإِن شِئْنَا فَشِعْرَ الْأَعْشَيَيْنِ

وَنَذْهَبُ تَارَةً لِأَبِي نوَاسٍ ... وَنَذْهَبُ تَارَةً لِابْنِ الْحُسَيْنِ

ولكأني بالشاعر المحظري يجد في القوم ضالته التي تشوق إليها في قوله:

فمن لي بأصحاب كرام أعزة ... يكونون أصحابي وأصحبهم دهرا

يخوضون في كل العلوم بفهمهم ... فهذا بذا أدرى وذاك بذا أدرى

فمن منشد بانت سعاد ومنشد ... خليلي غضا أو تذكرت والذكرى

ومن منشد بان الخليط ومنشد ... ألا عم صباحا أو قفا نبك من ذكرى.

إنها باختصار ليالٍ ممتعة ومؤنسة ستظل محفورة في ذاكرة كل "طالب معهدي" منّ الله عليه بحضور ليلة من لياليها... ليالٍ لو اطلع عليها التوحيدي لأفرد لها فصلا من (الإمتاع والمؤانسة)...

ثلاثاء, 31/03/2015 - 10:30

          ​