مقدمة في الوعي الشبابي بالثقافة

من وجهة نظر سن السابعة عشرة، ينطلق سباق ضد الساعة، كما يقول ريجيه دوبريه في كتابه «مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران».

هذا السباق (له جانبه المثير كما أن له جانبه المثير للسخرية). فحتى السابعة عشرة، برأيه «كنت تعيش مطمئناً على نحو ما، ولم تكن ملزماً بأي شيء خارق. أما في سن السابعة عشرة، فالعقارب تبدأ بالدوران جدياً».

وهو بهذا التحقيب يجعل من سن السابعة عشرة منصة لتشكيل الوعي بالوجود، والبدء في التعامل بجدية مع الذات، التي تدخل طورها الشبابي على كل المستويات. ومن ذلك المنطلق يسرد مجموعة من الأمثلة للذوات التي أنجزت قفزتها الإبداعية في ذلك السن أو بعده بسنوات قليلة كرامبو ولوتريامون وراديغيه وغيرهم.هذه القفزة الإبداعية لم تكن لتحدث في حياة هؤلاء لولا إحساسهم القوي بذواتهم، وبهسيس الطاقة الشبابية في دواخلهم، التي يمكنهم بها الاختلاف عن مجايليهم وتحقيق أحلامهم. وهي بالتأكيد نتيجة قراءة نوعية للوجود، من خلال الكتب والتأملات والتجارب. وهي أداءات تتكثف وتتراكم في مساحة عمرية محدودة لتشييد الذات الواعية. وهذه هي طبيعة الذوات المعاندة لمنطق القطيع، التي تنفرض في كل زمان ومكان بموجب دورات تاريخية ووقائع ثقافية لها ملامحها وإلزاماتها.وهو أمر يمكن ملاحظته اليوم في ظل ما تمثله ثقافة الحداثة الفائقة وما بعدها، التي تستولد جملة من المظاهر القطيعية الواعية واللاواعية، كفكرة آندي وارهول عن حق كل فرد في خمس دقائق من الشهرة، أو من يسميهم عبداللطيف اللعبي بآلهة اللحظة، وغيرها من المظاهر التي تستهوي الشباب، وتعلن ميلاد وانتصار الثقافة الشبابية.وعندما يتعلق الأمر بالموجة الثقافية الشبابية الجديدة التي تندرج في جانب منها تحت هذا التصور، ينبغي التوقف عند مجموعة من العلامات المهمة لتحليل طبيعة وفحوى المقروء وما ينتج عنه من ثقافة، إذ يمكن ملاحظة ميل معظم الشباب إلى الالتحاق بدورات القراءة السريعة لتسجيل أرقام قياسية في عدد الكلمات أو الصفحات أو الكتب التي يمكن مطالعتها في زمن قياسي. كما يكتفي بعضهم بمطالعة الخرائط الذهنية أو الإنفوجرافيك أو التصاميم المعلوماتية، أو ما يُعرف بالبيانات التصورية التفاعلية، للإلمام بمادة الكتاب أو التقرير.

وهو اتجاه جيد، إلا أنه لا يمثل الطريقة الأمثل لتلقي المعارف والعلوم والفنون، إذ يتم طمس السؤال الأهم عن الكيفية التي يمكن بموجبها تحقيق القراءة النوعية المتأملة التي تلزم الذات المثقفة.كما يُلاحظ أيضاً افتتان الشباب بالقراءة داخل الحقل التكنو- ثقافي، أي التعامل مع التقنية بوصفها ثقافة عوضاً عن الثقافة ذاتها. وهو الأمر الذي يفسر توصيف الإنترنت بكونها الفضاء الاجتماعي للمراهقة. وهنا يكمن خلل آخر في التعاطي الشبابي مع القراءة، فالتقنية عنصر من عناصر الثقافة، أو وسيلة لاكتسابها. وهو منحى يدفع إلى توهُّم نسبة كبيرة من الشباب بأن التصفُّح النتّي هو شكل من أشكال القراءة. وهو في واقع الأمر ليس سوى حالة عابرة من المطالعة السطحية، لدرجة أن أحد أشهر محللي عالم الإنترنت، وهو العالم البريطاني نيكولاس كير، تساءل إن كان محرك البحث غوغل يصيب الإنسان بالغباء.كذلك تميل شريحة من الشباب، بشكل اختياري أحياناً وقسري تارة أخرى، إلى القراءة والتخاطب باللغة الإنكليزية، للتدليل على عصريتهم وانفتاحهم الثقافي، وهو إجراء كفيل بإخراج الفرد من سجن اللغة الواحدة، وتوسيع دائرة تماسه بفكر وأدب الآخرين، إلا أن مضاعفاته الثقافية كبيرة ومدمّرة، إذا ما تم الانصراف عن اللغة العربية والاكتفاء باللغة الإنكليزية كمصدر للمعرفة. فاللغة فكر وليست مجرد ألفاظ لتوصيل الخطاب، خصوصاً أن ذلك الاتجاه نحو لغة الآخر يؤسس لما يُسمى بعدوى الثقافات المراهقة، أي تلك اللغة الجديدة التي تتنكر لقواعد الصرف والنحو والإملاء لصالح اختصارات مقتضبة ومخلّة في فضاء ثقافي غير ناضج أصلاً.وفي العقود الأخيرة تأسس مناخ ثقافي جديد، له سقفه الجمالي المنخفض وأفكاره المحدودة، وهو نمط استهلاكي أقرب إلى الثقافة الشفاهية الانبساطية المفتقرة إلى تعاليات المعرفي وجماليات الفني، تمثل في الهياكل الهشة لفكرة ثقافة التطوّع. وقد فرض هذا المنحى شروطه على الشباب كخيار تعبيري سهل، تتزايد خطورته في تلك السهولة، فلا يمكن الفرار منه إلا للذوات التي تمتلك إرادة وإمكانية التجاوز، فقد انغمس معظم الشباب في قراءة نمط كتابي له مواصفات أدائية محدودة، وضمن إطار على درجة من الضيق. وفي أفق استقبالي له ملمح النادي القرائي الشكلي، لدرجة أن الأكاديمي الأمريكي مارك بيورلين وصف كل من دون الثلاثين اليوم بكتاب حمل عنوان «الجيل الأغبى» مع عنوان فرعي «كيف بلّد العصر الرقمي الشباب الأمريكيين وجازف بمستقبلنا».كل تلك الظواهر المتشابكة تولدت كنتيجة طبيعية لانهيار مفهوم الثقافة الرفيعة وتهدّم أركان ثقافة الصالون لصالح الهامش والقاع الاجتماعي، على إيقاع ضربات ما بعد الحداثة، التي سمحت للشعبي بالحضور، وأتاحت حتى للسوقي فرصة التمثُّل. وذلك بمساندة مهبات العولمة التي أدت إلى تكثير وتنويع وتحسين وسائل اكتساب الثقافة، إذ لم يعد الكتاب هو المصدر، بقدر ما بدت الميديا هي المضخة الأكبر والأعتى. فالقراءة الآن تتركز في المدونات، ورسائل التواصل، ومواقع البث الفوري.

وهذا النمط من القراءة والتفكير، قد لا يؤدي بالضرورة إلى البلادة، إلا أنه يفرض تغيرات كثيرة في علاقة الفرد بالعالم والتاريخ والأدب والآخرين.وكنتيجة طبيعية لذلك الطقس برزت ملاحظة على درجة من الأهمية والخطورة، تمثلت في رغبة الشباب للانتقال بسرعة قصوى من منصة القارئ أو المتلقي إلى خانة الكاتب أو المنتج. بدون أن تكون لديه أي إمكانية معرفية أو فنية لذلك المرقى، سواء في الحقل الأدبي من خلال إنتاج نصوص روائية وشعرية نيئة، أو بالتورط في ما بات يُعرف بالإعلام الجديد وإعلام المواطن بكتابة تقارير ومقالات صحافية تفتقر إلى أبسط المتطلبات المهنية والأخلاقية، وهو منحى يضع علامة استفهام كبيرة حول الذات القارئة ومنتجها الإبداعي، حيث يقود كل ذلك إلى فحص مصطلح الثقافة الشبابية الذي تم توطينه في المشهد الثقافي والحياتي العربي، لدرجة أنه صار لا يأبه لكل المعايير والوصايا الثقافية.إن هذه المقدمة وإن بدت ذات منحى تعميمي، وعدائي أو اتهامي للثقافة الشبابية، إلا أنها لا تسائلها من فراغ، بل من خلال جملة من الوقائع والأدلة المتراكمة المترادفة، وبموجب رؤية تحاول البحث في مشاكل الإنتاج الثقافي الشبابي الجديد، المتمثّلة في بعدين: البعد الأول يتعلق بمسألة تأسيس الشرط وتوليد القدرة والرغبة على الخلق والإنتاج الثقافي. فيما يعالج البعد الثاني إشكالية الكم والكيف، بمعنى ملاحظة آليات القراءة ومديات التلقي، الموجبة لتشييد الذات المبدعة التي ستضطلع بمهمة إنتاج النص.

كاتب سعودي

خميس, 23/04/2015 - 10:02

          ​