الشعر ونظام المرجعيّة

انطلق أرسطو في تصوّره للشعر من فلسفة واقعيّة، قوامُها تدبّر الواقع والطبيعة البشريّة. وأقام نظريّته على أساس المُحاكاة. وهذا ما دفعه إلى استبعاد الشّعر الغنائيّ لأنّه ليس شعر مُحاكاة. وقد دفع هذا الاستبعادُ الرومنطيقيين إلى مناهضة التّصنيف الأرسطيّ.ويقوم هذا التّصنيفُ على ثنائيّة «الذاتيّة والموضوعيّة»، فالملحمة والمأساة والكوميديا عند هذا الفيلسوف أجناس موضوعيّة في حين أنّ الشعر الغنائيّ حسب رأيه ذاتيّ.واعتبرت الباحثة الألمانيّة كايت هامبروغير، أنّ مفهوميْ الذاتيّة والموضوعيّة «مفهومان خاطئان وخطران في ميدان الأدب»، واقترحت صنفيْن رئيسيّين انطلاقا من نظريّة التلفظّ، هُما «الجنس التخييلي» و»الجنس الغنائيّ». وجمعت داخل الجنس الأوّل بين الشكليْن المسرحيّ والملحميّ، لكونهما قائميْن على صيغ تخييليّة لضمير الأنا، واقتصرت في الجنس الثاني على الشعر، لأنّ الأنا الأصليّ المتكلّم داخل القصيدة حسب رأيها هو أنا واقعيّ ومرجعيّ. وعلى هذا الأساس تعتبر هامبروغير الشعر تلفّظا يُحيل إلى ملفوظ واقعيّ تنطق به ذات واقعيّة على عكس النصوص السرديّة والمسرحيّة.وهنا يجدر بنا التنبيه إلى نقطة مهمّة، إذا ارتبط الشعر بفعل التسمية، كما يرى هيدغير، فإنّ الذات الشعريّة تُسميّ الأشياء بِمُسمّياتها، بحيث لا يكون للدّال الواحد سوى مدلول واحد، ويكون الملفوظ بذلك واقعيّا مشدودا إلى المراجع الحيّة مقيّدا بقيود الإحالة والإخبار وإذا كان الشعر قائما على الإيحاء فسيسجّل اختفاء النزعة المباشريّة لاقتضائه الصّمت، كما الحال في قصائد مالارميه، وستتحدّث الذات الشعريّة عن أصداء ما ترى ويتحوّل النصّ إلى ملفوظ تخييليّ مُؤسّس على التعدّد الدلاليّ، وبذلك تكون للدّلالة التصريحيّة مرجعيّة مباشرة وللدّلالة الإيحائيّة مرجعيّة غير مباشرة. وتشترك الدلالتان كما أقرّ جون كوهين في المرجع، اللتان تُحيلان إليه مع تقابل في المستوى النفسيّ، «فالدلالة الأولى تُحيل إلى طبيعة الموقف المرجعيّ وتحيل الثانية إلى الموقف الانفعاليّ». ويرتبط الموقف الثاني بالوظيفة التأثيريّة التي يبثها الإيحاء في المتلقّي، ممّا يولّد لذّة القراءة بالتعبير البارطيّ فننتقل من القراءة الحرفيّة إلى القراءة الرمزيّة، خصوصا أنّ النصّ الشعريّ الحديث يتميّز بالغموض والالتباس، فهو نصّ غير مقروء يُصنع لكي تُعاد كتابته، يقول هنري ميشونيك: «خُلقت القصيدة بالتحديد لتقول كلّ ما نعتبر أنّه لا يُوصف، وإلاّ فلن يكون هناك شعر، سيكون هناك فقط فعل التسمية وليس الإيحاء».ولئن حمّل ميشال كولو الإيديولوجيا مسؤوليّة جعل القصيدة مقروءة وقابلة للاستهلاك وحاملة لمعنى ثابت، بحكم تصريحيّة اللغة المُستعمَلَة حسب تصوّره، فإنّ بارت طابق بين المرجعيتين الإيديولوجيّة والرمزيّة بقوله «إنّ الإيديولوجيا تُعتبر إجمالا شكل مدلولات الإيحاء». فالمعاني التي نستخرجها من الخطاب الإيحائيّ تبني بعد إعادة تركيبها وكتابتها نصّا إيديولوجيّا. وهو ما نلمسه على سبيل المثال في قصيدة «لا تُصالح» لأمل دنقل.طرح ميشال كولو في فصله الذي وسمه بـ«الشعر والمرجع» سؤالا مهمّا هو «لماذا العودة إلى المرجعيّة؟» وأفرزت هذه القضيّة مسألة ثانية تتمثّل في علاقة «الأنا الغنائيّ» بالشاعر. وقد ثار بعض الشعراء على مرجعيّة الأنا واعتبروا الشعر متعدّد الأصوات، أي لا شخصيّا، على غرار بودلير ورامبو الذي ذهب إلى أنّ «الأنا هو آخر». يقول هنري ميشو: «لسنا بمفردنا داخل جلدنا»، وبذلك لم تعد الغنائيّة مقصورة على الأبعاد الذاتيّة ولم تعد مرتكزة على الجوانب العاطفيّة، كما كان سائدا في التصوّر الرومنطيقيّ، إذ تغيّرت وجهة النظر لدى بعض النقاد فجان ميشال مولبوا، على سبيل المثال ساهم في إعادة تأهيل المصطلح وتوسيع آفاقه، يقول: «ما أقصده بكلمة «غنائيّة»، تلك الحركة أو الطاقة التي تستخدمها الكتابة الشعريّة بحثا عن شكل مثاليّ داخل اللغة أو عن تلك «الغريزة السماويّة» كما يقول مالارميه». وأعطى الباحث الفرنسيّ للغنائيّة المُعاصرة صفة «النقديّة» لأنّه لم يعد يراها مُجرّد تدفّق عاطفيّ وجزالة أسلوب، بل تلمّس فيها الحيرة والحسّ النقديّ الناجم عن «طرح الأسئلة والصّحو التدريجيّ».

أكاديميّ تونسيّ

سيف الدّين بنزيد

جمعة, 24/04/2015 - 09:47

          ​