عزيز: وظاهرة الرجل القوى / الماه ولد العويسي

عرفت موريتا نيا بعد استتباب أمرها السياسي، مطلع الستينيات ،عدة زعامات، وقيادات سياسية ، لكن أثرهم  وتأثيرهم ، ُسرعان ما انحسر، وتلاشى ،وابتلعه النسيان ، بمجرد المغادرة القسرية ،أو الطوعية ، لمقعد السلطة ، وما يمنحه من صولة ومجد.ولم يشفع لأولئك القادة ما أنجزوه للأمة ، وللوطن، وما أنفقوه  من جهد، وعناء، لإعلاء شان البلاد والعباد...

 

لقد ضرب الموريتانيون صفحاً عن مؤسس موريتانيا الأول، الراحل المختار ولد داداه ،عندما اقتحمت عليه كوكبة من الضباط غرفة نومه فجرا، سنة  1978ليضعوا بذلك حدا لتاريخ الرجل، ونضاله ، وألقه،. وهكذا خرج الأستاذ الراحل وبكل هدوء من الحياة العامة لبلاده، ليقضى بقية أيامه  في منفاه على ساحل مدينة " نيس " الفرنسية ..كما أن قادة ،ورؤساء الإنقاذ، والخلاص الوطني، والذين عقبوا الرجل في سدة الحكم، تداعوا تباعا الواحد تلو الآخر...فولد هيداله ورغم ما عُرف عنه من قوة، وسطوة ،وبأس، تم  إنهاء مساره ووهجه ،عندما  َأسَر إليه احد مرافقيه ،وهو يجلس خلف علم بلاده، في قمة بوجنبورة ،أن رفاق السلاح في  انواكسوط  ،قد استعاضوا عنه بعقيد آخر، هو قائد أركانه، ساعتها أيقن الرجل أن زمانه قد أدبر، وهاهو اليوم يحمل صفة رئيس سابق. أما معاوية مالئ الدنيا وشاغل الناس ،والذي عاش فى السلطة ، ومقعدها الوفير، أطول فترة عرفها رئيس موريتاني  حتى كتابة هذه السطور، فقد أفل نجمه ،وفقد ملكه، عندما اخبره ربان الطائرة وهما فى سماء النيجر بنبأ الانقلاب. فلم يجد الرجل من بد أمامه سوى البحث عن مكان يأويه، وهاهو الآن يعيش منفاه الاختياري، بعيدا عن الأضواء، وان ظلت ترافقه الحسرة. أما رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية ،والذي تحلل  طواعية  من أبهة الحكم، وبهرجته، فهو اليوم يمارس حقه كأى فاعل سياسي  وان كانت صناديق الاقتراع قبل الأخيرة قد قلبت له ظهر المجن . اما الرئيس" المؤتمن "، والذي أو صلته أصوات الناخبين إلى القصر العامر،فقد تم تقويض نظامه ساعة إخباره من بعض عناصر الحماية المصاحبة لموكبه، بضرورة التعريج على الثكنة العسكرية المجاورة للقصر، بدلٌا عن التوجه إلى المكتب الرئاسي، حينها عرف الرجل أن سلطته قد ضاعت والى الأبد،. وبعد شد وجذب هاهو الرجل اليوم ينعم بالراحة والهدوء في مسقط رأسه  ببلدة لمدن.

 

أما محمد ولد عبد العزيز، فقد استطاع بفضل حنكته، وشجاعته، وبراعته ، كسر هذه القاعدة .والتأسيس  لظاهرة الرجل القوى، الذي  يمتد حضوره ، و يستمر أثره،  وتأثيره، رغم الكبوات، والمطبات. وهى صفة غابت عن كل زعامات الوطن، رغم مكانتهم، وعلو منزلتهم .لكن لنرى كيف  حدث ذلك –بالنسبة لعزيز- إنها قصة تستحق أن  ُتروى :

 

لقد بزغ  نجم ولد عبد العزيز، وأشير إليه  بالبنان، وهو أيا مئذ  احد ضباط المرحلة  الطائعية -وما أكثرهم  وقتذاك.- فلقد انتزع الرجل الإعجاب، وحاز المهابة، عندما شاع خبر تصديه رفقة  بعض القيادات العسكرية للمحاولة الانقلابية التي استهدفت النظام فترتئذ  ،.وكادت أن توقع به، بزعامة فرسان التغيير. بحيث تم  إنقاذ  الموقف ، وعودة الرئيس إلى رحاب القصر الرمادي، بعد أن اخلي البعض مواقعهم عند الزخات  الأولى للرصاص، يومها بدأ ذكر الرجل يعلو .وفى صبيحة الثالث اغسطس2005سيستيقظ الشعب الموريتاني، والعالم ،على نبأ من العيار الثقيل .ألا وهو الإطاحة  بالرئيس الأكثر جدلا في تاريخ  موريتانيا الحديث .ولم تكد تنجلي سحابة ذلك اليوم المشهود، حتى بدأت الأفواه في الداخل، والخارج، َتلوك اسم الرجل "عزيز" معتبرة إياه رأس رمح ذاك التغييرا لجرئ، والمتقن ،والسلمي، وان كان العقيد "عزيز"آنذاك  ظل مفضلا التواري عن الأنظار، وصخب الأحداث، لكن ذلك لم يفلح في ثنى العامة ،والخاصة ،وكل مترصد لأخبار موريتانيا، من التنويه ،والإشادة، بدور ذلك الضابط الهادئ، والكتوم، والمختفي دوما وراء تلك النظارات السود، في الدفع بالانقلاب تخطيطا، وتنفيذا،.ولم يقتصر دور عضو المجلس العسكري "عزيز"يومها عند ذاك الحد، بل سيزداد ذكره علوا وبقوة خلال وأثناء تسيير المرحلة الانتقالية ،ولم يعد سرا القول إن أحزابا كبيرة ،وقيادات وازنة ،وزعامات تقليدية، وروحية ، في خضم تلك المرحلة ، .والتي سيكون لها ما بعدها، سنجدها تلك الآونة تلجأ إلى عضو المجلس العسكري "عزيز"في، رحلة بحثها عن موطئ قدم في الخريطة السياسية الآخذة في التشكل يومها،.. وهذا لعمري دلالة على محورية الرجل، وما حظي به  من كاريزما، وحضور آسر.

 

وستنتهي المرحلة الانتقالية، بانتخابات رئاسية، ستتمخض هي الأخرى بدورها، عن اختيار رئيس مدني، دفعت به إلى الواجهة أغلبية من نواب الأمة، وبعض الطيف السياسي، وكان محل قبول، ورضي، من لدن عزيز ومن يدور في فلكه، من قيادات عسكرية ومدنية.ومرة أخرى سيتصدر الضابط عزيز الأحداث،. وستزداد مكانته علوا وقدمه رسوخا ...

لقد استطاع اللواء"عزيز"أن  يحظى بثقة نواب الأمة، في ساحة النزال السياسي، الذي بدأ واستفحل ايامئذ بين الرئيس المنتخب ،وأغلبيته النيابية والذي سُرعان ما امتد لهيبه إلى عزيز، ورفاقه العسكريين، وبما أن دوام الحال من المحال ،.فان العلاقة ستسوء، ثم تتأزم، لتصل حد القطيعة بإذاعة بيان إقالة الجنرال وبعض القادة الميدانيين ،. حينها لم يجد المضطر إلا " ركوب الأسنة ".فلقد انتفض الجنرال وصحبه وأعلنوا قيام  "الحركة التصحيحية" ـ وللأمانة فالتسمية ليست من عندي ـ  ومرة أخرى سيقفز اسم الجنرال إلى العلن بشكل  أكثر وضوحا وقوة.

 

لقد كانت "حركة التصحيح" صبيحة السادس اغسطس2008حدثا جريئا ،وحاسما ،واظهر وبدون موارية أن اللواء "عزيز"ليس من النوع الذي يسهل تجاوزه .وقديما قيل: "من لا يعرف الصقر يشويه" لكن في المقابل فان كثيرا من المتاعب والمصاعب سترافق هذا الحدث مما سيضطر رئيس مجلس الدولة ،في مرحلة من المراحل، إلى الاستقالة من السلطة والجيش، حسبما تقضى  به  التفاهمات وقتئذ ومن هنا ستبرز قوة الرجل، ودهائه أكثر من  أي  وقت مضى .فالرجل ورغم استقالته من تسيير الشأن العام، وخلعه  لنياشين الجندية، وركونه إلى منزله كأي مرشح عادى، ظل مع ذلك ،ورغم ذلك  وجهة للكثيرين، ومحط اهتمامهم، ومدعاة إعجاب لدى السواد الأعظم ...

وعندما  َأَزف  يوم الجلاد الانتخابي، والذي تخلى فيه رئيس مجلس الدولة السابق "عزيز"عن كل أسلحته ،ومواطن قوته، وظفرت فيه المعارضة بكل الضمانات، وظروف الحياد، فإذا بالمرشح عزيز يعود إلى السلطة ،مرفوعا بأصوات الجماهير، وبالضربة القاضية ، وفى الشوط الأول ،الأمر الذي أصاب  مقاتل الخصوم، واوهن قواهم  ، ودفع بعضهم إلى ابتكار مبررات لتفسير الإخفاق،  كزعمهم بوجود "الباء الطائرة " والتي ستتحول بعد ذلك إلى حرج.

لقد كان الرئيس عزيز عرضة لطلق ناري  عن طريق الخطأ ، أبقاه طريح الفراش، وبعيدا عن الوطن أكثر من أربعين يوما في مشفى "بيرسى "الفرنسي، لكن أجهزة الدولة، ومصالحها، ظلت تسير بانتظام وانسيابية  .رغم  ُمصاب الرئيس، وما تعرض له من حملات مسعورة، وسهام مسمومة، دون أن يفت  ذلك في عضده ،أو يمنعه من الاضطلاع  بدوره  القيادي، كما لو كان حاضرا، سليم البدن، موفور الصحة،.فالعظماء، والأفذاذ من القادة، يحظون دوما بملكة القيادة، وفن الزعامة، وخاصة أيام المحن. وتلك صفات لا تجتمع عادة، إلا في الرجال الأقوياء.

لقد تعرض عزيز لكثير من الضربات، والكبوات، و الهزات،.  والتي، تستطيع كل واحدة منها، أن تنهض لوحدها سببا كافيا، لإقصائه وإنهاء دوره. كما حدث مع الذين سبقوه من زعماء، وساسة .لكن الرجل وعقب  كل ضربة، أو هزة ، ينبعث من جديد، كطائر الفينيق..

والظاهرة، تتواصل...                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                  

 

اثنين, 16/06/2014 - 10:10

          ​