الخصوصية الأدبية مدخل إلى معرفة الآخر

النص الأدبي كيان لغوي رمزي حي. عالم تتحرك فيه الأحداث، وتتحدث فيه الشخصيات، ويعيش الزمن فيه إيقاعه، وتحولاته، وتعرف فيه المشاعر الإنسانية جغرافية حالاتها، وتنتعش فيه الذاكرة بقوة، لأنها تخشى التلاشي في النسيان، فيأتي الأدب محصَنا لها، ضد الإهمال التاريخي. النص الأدبي حالة تاريخية ذات علاقة بسياق تحولات.ولهذا، يحتاج إلى اهتمام خاص بصفته كيانا حيا، نابضا بالحركة والزمن والحياة، ومنتعشا بملفوظات المجتمع. ولذا، يتطلب فعل قراءة النص الأدبي أفعالا أخرى مرافقة له، مثل الإصغاء، والشم، والمشاهدة، والإحساس، والتخيل، وغير ذلك من الأفعال التي ترتبط بوجود وحياة الإنسان.

 

فكما نصغي للإنسان، ونسمع كلامه، ونشم عطره، ونشاهد ونرى سلوكاته، ونعشق ابتسامته، ونتخيل ردود أفعاله، حتى نتواصل معه، ونحبه، ونأخذ منه، ونتفاعل معه، وننتج تصورا حوله، كذلك الأدب، يحتاج إلى إصغاء ومشاهدة وشم رائحة أزقته وشوارعه وعطور شخصياته.

 

إنه في حاجة إلى تنشيط مختلف هذه الأفعال، حتى يتم التواصل معه باعتباره كائنا حيا. وعندما تتعطل هذه الأفعال، يبتعد النص عن الحياة، ويتوقف نبضه، ويفقد خصوصيته التي تجعله ذاتا قائمة بنفسها، منتجة لزمنها، وسؤالها، معبَرة عن حالتها، وتحوَله القراءة إلى كائن جامد. مثلما يحدث في العلاقات الإنسانية، عندما نلغي تلك الأفعال في تواصلنا مع الإنسان، نحوَله إلى كائن غير حي، ومن ثمة نجهض إمكانية التواصل معه، والتعرف عليه.عندما نعود إلى شكل تعامل التأريخ والنقد الأدبيين مع التجارب الأدبية في المشهد العربي في العصر الحديث، سنجده تعامل يعتمد – في كثير من تجلياته – الرؤية الأحادية في القراءة، ويُهمِل، أو بتعبير آخر، يُضعف حركية الأفعال المرافقة للقراءة، والتي تقترب من روح الأدب، وتعبر عن خصوصية سؤاله وزمنه ومجتمعه وسياقه الخاص. لهذا، أنتجت هذه المقاربة التـأريخية/ النقدية نموذجا من القراءة، ينتصر لشكليين من التصور : تصور يعتمد النموذج الغربي باعتباره مصدر الإلهام الوحيد للتجربة الإبداعية، وتصور ثان يجعل التجربة مجسَدة في نموذج عربي واحد، والتجارب الأخرى تتمة له، أو ملحقات ليس إلا. وفي كلا التصورين، تهميش لخصوصية السياق الذي ينتج أسئلة خاصة، تؤثر في شكل التعبير، إضافة إلى تأثيره بالتجربة الإنسانية بشكل عام.يكفي أن ننظر إلى التأريخ الأدبي والنقدي لجنس الرواية في التربة العربية، لنقف عند طبيعة هذه المقاربة التي حين فكَرت في زمن تأسيس هذا الجنس الأدبي، اعتمدت خلفية مرجعية إما غربية، أو عربية، وكأن الرواية في التجربة العربية غير معنية بالاحتكام إلى أسئلة سياقات مجتمعاتها.

 

 

فالرواية عندما ظهرت باعتبارها شكلا أدبيا جديدا، فقد كانت تعبر عن سياق جديد تعيشه المجتمعات الأروربية، وتعبر من خلاله عن تحولاتها وأزماتها الجديدة، مثل أزمة الفرد الأوروبي الذي اكتشف نفسه بطلا إشكاليا في مجتمع يمكَنه من مبادئ حقوق الإنسان، غير أنه يسلب منه هذا التمكين، حين يُدخله في زمن الأشياء مع النظام الرأسمالي. الرواية إذن، لم تكن شكلا مهادنا، أو عبثيا، أو جامدا، إنما كانت فعلا مفجَرا لوضعيات تحول مجتمع. وبالتالي، عندما يتم إدراج زمن تأسيس تجربة الشكل الروائي العربي في خانتين إما تابعة للنموذج الغربي، أو ملحقة لنموذج عربي، فإن ذلك يساهم في إقصاء خصوصية تأسيس الجنس الروائي في سياقات عربية، كما يعطَل التعرف على هذه النماذج التي ذابت أنظمتها الفنية والمعرفية والبنائية مع النظر إليها باعتبارها نسخة أو ملحقة.تصوران اثنان يعكسان شكل التفكير في الإبداع، من خلال اعتماد معايير نموذج سابق، (نسخةعن/ملحقة بـ). في حين، تؤكد عملية قراءة مختلف التجارب الروائية الأولى العربية، أنها تنطلق من خلفية ذاكرة السرد العربي. إذ، تشكل المذكرات والسيرة الذاتية والمقامة والرسائل والرحلات والخطاب الصوفي والسرد التراثي مرجعيات النص الروائي العربي في زمن التأسيس. وهي خلفية مرجعية، تعكس السياق الثقافي المحلي الذي شكل مكونات الوعي بالحالة الروائية لدى المبدع العربي.لأن الكاتب العربي وهو ينجز شكلا سرديا جديدا (رواية)، كان يحاور- بشكل ضمني ثقافي – الشكل السردي الذي يؤثث ذاكرته، وهو المقامة، أما المبدع الأوروبي فكان إنجازه للرواية من خلال خلفية ذاكرته السردية وهي الملحمة.

 

نحن نكتب ونفهم في علاقة حوارية مع خلفيتنا الثقافية. هكذا، نتواصل أيضا سلوكا وأفعالا وأفكارا انسجاما مع خلفيتنا الفكرية وذاكرتنا الثقافية، دون أن يعني هذا إقصاء للتأثيرات القادمة من التجارب المختلفة غربية أو عربية، لأننا نتحدث هنا، في مستوى آخر، يخص مسألة تقييد التجربة في تصوريين يهمشان الحالة الخاصة للتجربة، والتي بإمكانها أن تلقي الضوء على مكونات زمن التأسيس.بهذا الشكل، يصبح فعل القراءة مرتبطا بأفعال أخرى، تساهم في تفكيك هذه العلاقة التي تعيَن- بدورها- خصوصية كل ذات. فالقول بأن الرواية العربية في زمن تأسيسها، كانت عبارة عن نسخة للرواية الأوروبية، قول يتجاوز طبيعة الخلفية السردية التي تؤسس ذاكرة المبدع العربي. ناهيك عن اختلاف شروط زمن تأسيس الجنس الروائي في المشهدين الأوروبي والعربي.ومن جهة ثانية، يعبر كثير من النصوص الروائية التأسيسية العربية، سواء تلك التي شكلت العتبة نحو الشكل الروائي، أو التي انخرطت بإمكانيات مهمة في الجنس الروائي، عن كونها تأتي في إطار السياق المحلي الإصلاحي/الثوري المرتبط بأسئلة المجتمع. وبالتالي، فكتابة الرواية لم يكن الهدف منها بالدرجة الأولى – في كثير من النماذج- الاهتمام بالرواية باعتبارها فنا جديدا فقط، وإنما اعتبرت لدى بعض التجارب، وسيطا رمزيا لنشر مجموعة من القيم كما في رواية «بديعة وفؤاد» (1906) للكاتبة السورية» عفيفة كرم»، أو لطرح الرؤية الإصلاحية في التعليم، كما في الرواية السعودية الأولى «التوأمان» (1930) للكاتب «عبد القدوس الأنصاري» التي انتصرت للتعليم الوطني، أو لنشر أفكار ثورية كما في التجربة العراقية الأولى «جلال خالد» ( 1927) لمحمد أحمد السيد، أو لتمرير سيرة إيجابية كما مع النص المغربي «الزاوية» ( 1942) للتهامي الوزَاني. نماذج كثيرة قادمة من سياقات عربية، تشخَص أسئلة مجتمع بعينه، كان يؤسس لملامح التحول، ويقترح مقاربات سياسية وتاريخية وفكرية وتعليمية لهذا التحول. فكان الشكل الروائي يشبه هذه الملامح، سواء في عتبته، أو في مغامرته التأسيسية.

 

لذا، فالنظر إليها وفق تصور النسخة أو الملحقة، إقصاء لرؤيتها التي عبَر عنها شكلها الروائي.إن مناقشة مثل هذه التصورات في الـتأريخ والنقد الأدبيين للجنس الروائي، يجعلنا نعيد ترتيب منطق انشغالنا/اشتغالنا بالرواية العربية من فكرة «الوحدة المنسجمة» إلى فكرة «التعدد المتنوع». وهي فكرة تسمح بالإصغاء إلى كل التجارب العربية، ومنحها شرعية المساهمة في التأصيل لجنس الرواية في التربة العربية، أو غير ذلك من الأشكال الأدبية والفكرية، مع الإيمان باختلاف التجارب كميا ونوعيا.

 

ذلك، لأن التفكير في زمن التأسيس لأي ظاهرة، يتطلب استحضار كل التجارب مهما كانت وضعيتها، من أجل إنتاج وعي بمسار ولادة الظاهرة الأدبية أو الفكرية.اعتماد فكرة الخصوصية السياقية في نشأة التجارب الإبداعية، يجعلنا نتجاوز بعض الطروحات الجاهزة، والتي باستهلاكها نقديا وتعليميا وعلميا بدون تفكيكها، نقصي مبدأ التنوع المتعدد الذي تعبر عنه التجربة الإبداعية العربية، كما نقصي مسار تطور التجربة.كما يجعلنا هذا التصور الذي يتأسس على فعل القراءة المدعمة بباقي الأفعال إلى جعل كل تجربة عربية، هي وليدة سياقها المحلي، في تفاعل بنيوي مع تجارب عربية وأجنبية مختلفة.القراءة تنتعش بمرافقة الأفعال الأخرى التي تحول النص إلى مشهد للرؤية، وملفوظات للإصغاء، وروائح للشم، ومشاعر للإحساس، وهو مستوى من القراءة يجعلنا نقترب من الآخر باعتباره كيانا نابضا بالحياة. هكذا، نقترب من جوهر الأدب، من روح الشعوب. هكذا، يصبح الأدب سفرا إلى الآخر الذي فيما هو يؤسس لاختلافه وأسئلته، يجعلنا نراه، وعندها نرى أنفسنا. عندما نعطل القراءة باعتبارها مجموعة من الأفعال، يبتعد النص الأدبي، ومعه، تتعطل معرفتنا بالآخر.

زهور كرام

ثلاثاء, 01/07/2014 - 09:40

          ​