الشعر: ذلك الساحر المهندس!

الشعر هندسة حروف وأصوات ورؤى نعمّر بها في نفوس الآخرين عالماً يشابه عالمنا الداخلي.والشعراء مهندسون، لكل واحد منهم طريقته وأسلوبه في بناء الحروف وتعميرها. فالحجر متوفر للجميع ولكن القلة من الموهوبين هي التي تعرف أين تضعه وكيف تضعه.وبالرغم من اعترافنا بوجود قواعد أساسية للفن الهندسي، فإن حرية المهندس تبقى لا حدود لها، وهي التي تتيح له في كل لحظة أن يحذف، ويضيف ويعدل في تفاصيل مخططه حتى يقتنع بكماله الفني.معنى هذا أن هندسة القصيدة، أي وضع سلّمها الموسيقي، عمل مرتبط أعمق الارتباط بحرية الشاعر، ومهارته، ومعرفته بكيمياء اللفظة. ومعنى هذا أيضاً أن موسيقى الشعر ليست مخطوطة كلاسيكية محفوظة في متحف لا يسمح لنا بلمسها وبإخراجها إخراجاً جديداً.

 

إن بحور الشعر العربي الستة عشر، بتعدد قراراتها وتفاوت نغماتها هي ثروة موسيقية ثمينة بين أيدينا وبإمكاننا أن نتخذها نقطة انطلاق لكتابة معادلات موسيقية جديدة في شعرنا.إن ذوقنا الموسيقي تطور ونما وتأثر إلى حد بعيد بالبناء السمفوني المركب في الموسيقى الأوروبية، وبالأصوات الحادة الممزقة التي نسمعها كل يوم كموسيقى الجاز والبوق والصنوج النحاسية.لقد تجاوزنا مرحلة (ربابة الراعي) بإيقاعها البدائي البسيط إلى مرحلة البناء الموسيقي المتداخل وانتهت في حياتنا مرحلة (القصيدة العصماء) بأبياتها المئة تجلد أعصابنا بقواف نحاسية مرصوصة كأسنان المشط.. نعرفها قبل أن نعرفها.ليس الشعر صنوجاً تُضرب في حلقة ذكر، ولا ترتيلاً مريضا يُقرأ على الأضرحة. ولكنه همس خافت يتجاوز الأذن الخارجية ليختلط بلحمنا، وأعصابنا، ووجودنا، وإنسانيتنا.الشعر هو همس الإنسان للإنسان. هذه هي حقيقة الشعر منذ هوميروس إلى فاليري.

 

إذن فالشعر أداة نقل راقية بين الهامس والمهموس له. أداة تصلنا بالآخرين وتوحدنا معهم.ووسيلة الشعر إلى الناس هي اللغة، وهذا يقودنا إلى طرح السؤال التالي: هل هناك لغة شعرية؟ هل هناك حدود بين لغة نستعملها لكتابة القصيدة.. ولغة نستعملها لكتابة الرواية أو المقالة؟أنا شخصياً أرفض تقسم اللغة إلى مناطق جغرافية ومناخات.فاللغة هي هواء مشاع يتنفسه الجميع، ونقد موحد مطروح في كل يد.وإذا كانت اللغة هي الحجارة التي نبني بها أفكارنا، فإن الشعر هو ذلك الفن الهندسي الذي يحول الحجارة إلى قصور كقصور ألف ليلة وليلة.كل الكلمات بلا استثناء هي موضوع للشعر. والفنّ الشعري هو ذلك الساحر الذي يحول النحاس إلى ذهب.. ويقلب التراب إلى ضوء.(ô)الشعر العربي الحديث، يخوض بكل طاقاته وخلاياه وأعصابه تجربة كبرى في التجديد. فلنمنحه الفرصة لإثبات وجوده.

رجل أزمنة العرب

طبعة جديدة من مختارات (1923 ـ 1998) صدرت عن منشورات Interlink، بعنوان ‘الدخول إلى البحر’، بعد طبعة أولى نُشرت سنة 1996.

 

وضمّ الكتاب ترجمات لقرابة 70 قصيدة (‘شعر إيروتيكي، وسواه’، كما يقول العنوان الفرعي)، حققتها لينا جيوسي وشريف الموسى، بالتعاون مع جاك كولوم، ديانا دير هوفانيسيان، نعومي شهاب، جيريمي ريد، كريستوفر مدلتون، و. س. ميروين، جون هيث ـ ستوبز؛ مع مقدمة ضافية من الناقدة المخضرمة سلمى الخضراء الجيوسي.وفي عصر سياسي، تقول كلمة الغلاف،’حيث الصراع ضدّ القهر الداخلي والخارجي أصبح مركزياً في الشعر العربي، نجح في إعادة تأسيس ما يقترن بالشعر الإيروتيكي من حيوية، وقوّة خالدة، في الحياة الإنسانية.

 

وإذْ تابع تراث شعر الحبّ العربي، الذي يبلغ عمره 16 قرناً، فإنه أغناه بتجربة الإنسان الحديث، مدركاً على نحو عميق الوضع المتغيّر للمرأة في الأزمنة المعاصرة، فأعطى التعبير الشعري الأعلى بلاغة حول واجب توفير الحرّية للمرأة، وحقّها في امتلاك السيطرة على جسدها ومشاعرها’.وقباني، تتابع كلمة الغلاف، ‘أستاذ ماهر في الموضوع الإيروتيكي، وهو يقف بين أفضل شعراء الحبّ في العالم، وقد شدّد دائماً على الحياة والبهجة في وجه الفوضى والمأساة، ممتدحاً بهاء المرأة وجمالها طيلة خمسة عقود. وبهذا فإنه أسبغ التوازن والألق على شعر يعيش مأزقاً، فأحيا الإيمان بإمكانية الفرح والإشباع العاطفي. لكنه، أيضاً، استشاط سخطاً ضدّ قوى الشرّ المحيطة به، وكتب مناهضاً ومعارضاً، فكان رجل أزمنته وكلّ الأزمنة، والشاعر الأكثر شعبية في العالم العربي’. ‘

نزار قباني

أحد, 18/05/2014 - 09:59

          ​