جهد المقل فى مضمار خطاب السيد الرئيس

مّنى قبل يومين مجلس مع أساتذة كرام عاملين بالمدرسة العيا للتعليم، وكنا كمن يُشْحِذُ الأذهان استعدادا للمجلس العلمي، الذى سيلتئم بعد حين، وأخذ النقاش أطوارا، طَورا به يهوي وطَورا به يعلو، نبّهت الحضور ساعتئذ، وأنا استنهض فيهم مكامن مايُسْتحسَنُ في البيان، وقيمة فصاحة اللّسان، وفائدة فصل الخطاب، وفيْء امتلاك مفاتح الكَلِمِ، نبّهت الحضور أن كل أولئك سَنَامَ الخِلال الحميدة وسيّد الفضائل، فانبرى أحدُ الأساتذة الحاضرين وأصّل الفكرة تأصيلا يشي برحابة الصدر فى هذا المضمار، وينمّ عن دراية معتبرة فى العربية وآدابها فقال: إن البيان يُعْدِلُ الحكمة، من خلال الآية الكريمة، وإنه أحد معيارين (يقوم مقام النصف) حددهما القرآن الكريم: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}

وهناك آيات بينات فى هذا المضمار تُعْلِى من شأن البيان وتجعله في مقدمة المحامد...
ولم تفتني الفرصة، فأثْنيت على تأصيله، إذ بجّح لفظى، بما أسدى من تبصرة بما أقول، نَبَا عنها ذهني، وقصُر عنها نظري، وخانتني فيها قدرتي على الإستظهار...
وكنت، ومازلت، أحسب أن البيان سيد الخلال الحميدة، وما تحلّى به أحد إلّا زَانَهُ، وماتوسّل به لحاجة إلّا قضاها، وما امتطاه لهدف ولا مرام إلّا دَلَفَ إليه... كان ذلك قبل يومين، واليوم كنت، كَجُلِّ المواطنين، أتابع خطاب السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مباشرة من مدينة وادان، ولن أكرر ماقلته فى خطابه الماضي الذي رسم فيه برنامج التكيف مع الجائحة، بل سأذكر مايميز هذا الخطاب، وقد تابعته في التلفزيون، وانتظرت حتى سمعته، مايميز هذا الخطاب عندي أنه كان وجيزا الإيجاز المطلوب عند أرباب البلاغة وأهل البيان وأصحاب المنابر، والإيجاز وإن كان قيمة ثابتة فى الأصل فإن قيمته آكد فى زماننا هذا، توكيدا لامرية فيه، وفضلا عن ذلك فهو مُكْتَنز بالمعاني زاخر بالعبرة والحكمة البالغة، وفوق هذا وذاك فهو واثق النّبرة، صادق العاطفة، نابع من الإيمان بقيم المواطنة التى نعاني - نحن الموريتانيين - من الخَصَاصِ فيها، طافح بقيم الإنصاف، والعدل... حدَّ التَّناهي في الحزم والعزم... والخطاب فى الأصل صِيغَ لمناسبة غطّاها على الوجه المطلوب وكان ضافيّا وكافيّا ووافيا بالمناسبة التى حرّر من أجلها أصلا، غير أن توفيق الخطاب يكمن فى أنه استجابة لنداء صَمَّ الآذانَ من مناكب البلد وأطرافه، ومن مراكزه كذلك بل علا التأَوُّهُ من شكوى هذين المرضين العضالين:
أولهما ماسمّاه الخطاب (النفس القبلي المتنامي) 
وثانيهما معضل الشرائحيه المقيت، الذى ينخر جسد المجتمع كالسّوس ويعمل فى وحدته عمله المميت.
لقد حذر الخطاب بطريقة موفقة من صولة هذين الداءين، مبينا الأضرار التى يورثها للدولة والمجتمع وما يَنْجرّ عنهما من تبعات، وفوق هذا وذاك، تعهده بمحاربة الدولة لهما (أيا كانت التكلفة) لقد اسْتَرْخَصَ التكلفة تثمينا للهدف الذى يرمى إليه، وإن طريقة أداء الخطاب، ومعجم الكلام  فيه تشي بدرجة الإستعداد غير المسبوق لدفعها، وتعهد بإعْمالِ  انجع السبل للقضاء على هذين الداءين، ومنها ألا ترتب الدولة على العمل بهما (الشرائحية والقبلية) أي نفع عام أو خاص وهو ماعناه الفقهاء ب"المعاملة بنقيض القصد"، وهذا لعمري من أوكد عوامل محاربتهما..
ومن أبواب مختلفة... يتصدّرُها الإيمان بقيم المواطنة، بكل حمولتها، أنوه بهذا الخطاب، وأدعو إلى الإصغاء له، والوعي بمراميه والعمل على تجسيدها، وأدعو إلى أن نسعى ماوسعنا السعي، كل من موقعه، وحسب جهده، إلى العمل من أجل الوصول إلى المقاصد التى يدعو لها...
على المربّين، والأساتذة، والمعلمين، أن يخصّصوا درسا لشرح أهدافه وأن يُبْرزوا المعاني الكامنة فيه للتلاميذ والطلاب...
وعلى الوزارتين الوصيتين الإشارة بذلك للقائمين على العملية التربية.
وعلى الأحزاب فى الأغلبية والمعارضة على حد سواء وكافة فعاليات المجتمع المدني التحسيس به وشرح مضامينه والوقوف عند الأهمية التى يكتسيها...
لأنه شأن الجميع وسعي محمود فى أمور الكافة، فالخطاب حَرِيُّ بأن يُنْمى إلى مدينة وادان ويدوّن فى الخطابات المدينيّة (نسبة للمدينة) وعلى الإتحادين النّاشئين للأدباء والكتاب ووسائل الإعلام كافة يقع العبْء الأكبر فى هذا المنحى...
ولست أدرى كيف لم يُعْمِلْ  اتحاد كتاب وأدباء ينتسب إليه كبار الشعراء، وأنا أعرفهم بالإسم والوسم، وهم فخر الوطن، وقد عملوا على رفع رايته خفّاقة فى سماء المجد، حيثما حلّوا وارتحلوا، وأكّدوا حكمة البيت المأثور:
ولولا خصال سنها الشعر مادرى     بغاة العلا  من أين تؤتى المكارم.
كيف لم يُعمل هؤلاء بيت المتنبي:
غــضـبت له لما رأيت صفاته     بلا واصف والشعر تهذي طماطمه.

د. إزيد بيه ولد محمد محمود

أحد, 12/12/2021 - 19:07

          ​