الموظف الجمهوري سر النهوض المنشود / المختار محمد يحيى

،لقد عرف البشر خلال العصور القديمة منذ الإغريق والرومان بل وحتى الفينيق والهنود جوهر القوى التي يمكن التعويل عليها لبناء امبراطوريات وكانتونات منظمة وآمنة، ذات وحدة سياسية وامتداد ترابي شاسع، وتمتلك من قوة الاقتصاد ما يخولها البقاء مصدر نفوذ ومحور دوران الشعوب الجارة لها، وكان السر الذي استغله الجميع لتوطيد أركان البلاد على أساس منيع مهاب ومعتبر، هو الاعتماد على البشر المؤطرين والمكونين أحسن تكوين، بالإضافة إلى تسلحهم بالآلات والمخترعات مما قد يرهبون به عدوهم.

إن تلك الامبراطوريات وإن كانت في معركة وجود وبقاء، فقد عقدت الآمال على قدرات المحاربين المدربين ذوي القوة والبأس الشديد، لما له من الأسباب في تسهيل غزواتهم وإنجاحها، ودك حصون العدو وإرهاقه قبل الانقضاض عليه.

أما في العصر الحديث فقد تحول الاعتماد على البشر من منظور كونهم محاربين أشاوس بهم تفاخر الأمم إلى رأس مال بشري قائم على المعرفة والابتكار، حيث أن الدول المتقدمة ومنذ نهاية القرن العشرين بشرت بعالم جديد لا مكان فيه لغير المتضلعين والآخذين بنواصي عصر المعرفة والتقانة والرقمنة، والذكاء الصناعي، باعتباره رأس مال لا تمنحه الصناديق المالية الدولية، ولا يتم استخراجه من المناجم، بل هو نتاج دراسات استراتيجية ذات مدى بعيد تقوم بها تلك البلدان لحجز مواقع لها ضمن المجتمع الحديث المتطور.

إن تدارك العالم اللاهث باستمرار وراء عجلة التطور السريع ليس بالأمر المستحيل، فكثير من البلدان بدأ يستفيد من خصوصياته الثقافية والاقتصادية لجعل نفسه في مركز الحراك العالمي، وذلك من خلال تثمين الموارد الخاصة من بيئة وثقافة وتراث وغيرها وربطها بالعصر الحديث، من خلال تشجيع واحتضان الأفكار الإبداعية والخطط المبتكرة، وتوظيف التكنولوجيا في الحياة اليومية، لذلك فهي تخلق عوالم واقعية ذات أرضية حداثية.

لعل ما يلائم الحالة التي تطبع منطقتنا ومحيط موريتانيا، هو عدم الالتفات إلى الوراء، والسير قدما في إدخال المعارف الجديدة والتكنلوجيا في مناهج التعليم، وتوفير تطوير مستمر لبيئة الأعمال، ورقمنة القطاع العام، وجعله قائما شيئا فشيئا على الذكاء الصناعي وأكثر مواكبة لسيرورة العصر والاكتشافات، حيث أن إدخال الأساليب الحديثة في العمل الإداري سيخلق تراكما يسهل معه دمج الأجيال الجديدة المهيئة للعمل في بيئات أكثر سرعة وفاعلية.

ولعل التوجه الرسمي الواضح نحو توطيد دعائم دولة القانون والمؤسسات، القائمة على الشفافية والحكم الرشيد، هو ما يجعل الطريق سالكة لميلاد الجمهورية القائمة على سواعد مواطنيها الوطنيين، بمختلف ألوانهم وأعراقهم المنصهرين في هوية موريتانية واحدة، ثرية ومتنوعة وقوية، تحظى بجميع حقوقها، قائمة بواجباتها، جمهورية تقوم على صناعة الإنسان باحترام حقوقه وبث العدل والمساواة، لتفجير طاقاته الخلاقة ومنحه الحرية للإبداع.

إن الموظف الذي تحتاجه الجمهورية للنهوض بها بعيدا عن التخندق الفكري والعاطفي – حصرا – هو ذلك الموظف المحرض والمجند للنهوض بالعمل، المزود بالروح الوطنية والإرادة التلقائية في صيانة المكتسبات الجمهورية، والمسلح بالمعارف والخبرات المهنية اللازمة لإنجاح دوره وإحراز الأهداف على أكمل وجه، وذلك من خلال الانضباط المهني والتقييم الدائم والتأطير المتواصل.

وتعتبر الإرادة السياسية الصادقة أهم المحركات التي تدفع العمل الإداري إلى نفض غبار الترهل وغياب المسؤولية، وإنعاش دور الموظف وحثه على البذل والعطاء لتحقيق الأهداف المنشودة، وهي الإرادة السياسية التي أبان عنها رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني أكثر من مرة لتفعيل العمل الإداري وتقريب الخدمات من المواطنين، والعمل ضمن ما يحترم القانون والنظم المؤسسية والمرفقية.

إن هذا الموظف الجمهوري قادر لا محالة على تسريع وتيرة العمل الإداري وتحقيق الفاعلية والنجاعة المطلوبتين، كذلك فإنه ملزم باتباع البروتوكولات الإدارية المتعارف عليها، مما يجعل عملية التقييم أسهل وأساليب التكوين المستمر أكثر جدوائية استنادا على النواقص، كما أنها ستكون أداة للرقابة ومحاربة الفساد وسوء التسيير مما يجعل تنظيف الإدارة من المسلكيات القديمة مسألة وقت ونتيجة حتمية.

إن تخريج المزيد من الموظفين المحملين بالحس الوطني، والمهارات الإدارية والمهنية سيكون سبيلا لضخ الدماء في هيكل الإدارة الموريتانية، والتي أصابها الترهل واليأس، بعد عقود من الاستغلال السيء بل ضد الدولة أحيانا والمصلحة العامة، ولعل عزائنا حاليا هو الدفعة التي تعمل المدرسة الوطنية للادارة على تخريجها (يناير 2022) بعد إخضاعها لمسار تكويني غني بالتجارب والخبرات الإدارية والمهنية، وخوضهم التدريبات الإدارية في الميدان، كما حظوا بتكوين عسكري مكثف قصد بث الانضباط وروح الوطنية بداخل كل فرد منهم.

لا شك أن هؤلاء سيحملون على عواتقهم الانخراط في حركة تجديد وتنشيط للجسم الإداري بمختلف القطاعات الحكومية من الإدارة العامة إلى المالية والعدل، فالشغل والخارجية والقضاء، وهو ما سيرفد هذه القطاعات بطبقة جديدة حظيت بأحسن أساليب التكوين بفضل المناهج المهنية التي تقدمها المدرسة الوطنية للادارة والصحافة والقضاء وبواسطة إدارة جادة وصارمة وطاقم تكويني جيد ومتضلع بالخبرة والمعرفة والتجربة الإدارية.

إن العمل على توسيع الاكتتاب لصالح جميع القطاعات والأسلاك الوظيفية من شأنه تجديد الإدارة وإحيائها، وإرساء روح النشاط الإداري والمواظبة، كذلك فإن من شأنه أن يزود المنظومة اللامركزية للدولة بالمصادر البشرية الكافية، لتفعيل الإدارة في الداخل والأطراف، وتحقيق الأهداف من وراء البرامج والمشاريع الكبرى التي لابد من متابعتها والإشراف عليها من قبل مؤسسات قارة وثابتة، بدل الاستعانة بالوكالات والمؤسسات ذات الطابع الرسمي التي لا تقوم على هياكل مهنية قطاعية نظامية.

ثلاثاء, 21/12/2021 - 23:10

          ​