مالي: بين إخفاق الاستراتيجية الفرنسية لمكافحة الإرهاب والخيارات الجديدة / محمد سالم الشيخ ‏

مقدمة:
تعتبر الأزمة في مالي جد معقدة نتيجة تداخل عدة عوامل منها الداخلي والإقليمي والدولي، فرغم العامل الداخلي المتعدد الأبعاد والذي يهدد الدولة المالية في كيانها ويطرح التساؤلات حول قابليتها للبقاء، وكيفية المحافظة على حدودها  ووحدتها الترابية، إلا أن الأزمة تجثم بظلالها كذلك على الدول المجاورة لمالي وعدة دول أخرى في الساحل وفي الجوار الإفريقي، ففيما تتفاقم الأزمة في هذه الدولة تصبح التداعيات بالنسبة للدول المجاورة أشد تأثيرا، فدول شمال إفريقيا ودول الساحل ليست محصنة أمام العوامل المخلة بالأمن والمهددة له التي تنطلق من شمال مالي ، و التي تتعدد أسبابها و يتعدد الفاعلون فيها ، فإضافة إلى الحركات الطوارقية المطالبة بالاستقلال عن مالي ، و التي تجد عمقها و روابطها الممتدة في النيجر و في أتشاد و حتى في ليبيا ، و تقود حربا تحريرية منذ الستينات  من القرن الماضي ، هناك أيضا الحركات الجهادية بمختلف مشاربها ، إضافة إلى نشاط تجار المخدرات و السجائر في تلك المناطق .
 ما جعل الإرهاب الذي يعد أحد الأسباب الأساسية للأزمة ، يتجذر في المنطقة وتتعدد طرقه وآلياته، دون أن تكون الجهود المختلفة التي تم القيام بها من أجل مكافحته ناجعة أو ذات مردودية في كبح جماحه، و من أبرز هذه الجهود التدخل الفرنسي في مالي الذي عقب تفجر الأزمة في عام 2012 ، و الذي ساعد آنذاك في إيقاف توغل الهجوم على العاصمة ، بل ساعد في استرداد بعض المدن التي سيطر عليها الانفصاليون الطوارق مدعومين ببعض القوى الإسلامية ، إلا أنه سيفشل في تحقيق الأمن ، و يخفق في مساعدة الدولة على بناء تنمية و حياة سياسية طبيعية ، قبل أن ينتهي بانسحاب غير مبرمج في عام 2021 م ، و ذلك ما سنستجلي كنهه في هذا البحث .
سنتعرض للتدخل الفرنسي في مالي ، متحدثين عن الأسباب الرئيسية له ، عن أهم مراحله و عن نتائجه ، قبل أن نتناول بالتحليل الانسحاب  من هذه الدولة و تداعياته عليها و على الأمن في منطقة الساحل ، و ما هي السيناريوهات المحتملة و المستقبلية للأمن الإقليمي في هذه البقعة من القارة الإفريقية و تأثيرات الموقف الفرنسي الجديد ، خصوصا بعد دخول لاعبين جدد في الساحة .

1/ مالي على أبواب الأزمة الأمنية .

عرفت مالي بعد سنوات قليلة من الاستقلال العديد من المشاكل، فإضافة إلى المشاكل الهيكلية التي عانتها الدول المستقلة حديثا في تعميم التعليم و الصحة و بناء إدارة مستقلة عن المستعمر الفرنسي، الذي حاول أن يبقي على الروابط قوية مع مستعمراته القديمة.. فظهرت في المناطق الشمالية من مالي  دعوات انفصالية لدى مكونات سكانية مثل الطوارق و العرب ، و نتيجة إخفاق الدولة في تنمية هذه المناطق و إيصال الخدمات الأساسية لها ، فقد بقيت  على  قطيعة مع السلطة المركزية و تنامى فيها التذمر و تعددت الشكاوى من تفشي الفقر و الجهل و انعدام الصحة و التعليم و الأمن ، ما ولد حركات انفصالية و دعوات للاستقلال عن مالي ، منذ عام 1963 ( 1).
تزعمت هذه الدعوة الانفصالية الحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)    و تتكون في غالبيتها  من الطوارق و تدعوا للاستقلال عن مالي و لها جناحان عسكري و سياسي ، و قد كانت تتلقى الدعم من ليبيا و استفادت من الفوضى التي عقبت سقوط الدولة الليبية فحصلت على الكثير من الأسلحة المتطورة كما استفادت من  عودة بعض الضباط الطوارق الذين خدموا في الجيش الليبي ،    إضافة إلى العمق الطوارقي و امتداداته بين سكان عدة دول مجاورة ما شكل دعما قويا لهذه الحركة عبر تاريخها و قاعدة خلفية لها.(2)
هذه الحركات المختلفة ذات المطالب المتفرقة ، وحدها مطلب الاستقلال عن مالي و إنشاء  كيان مستقل تشعر فيه بهويتها و بخصوصيتها ، الأمر الذي نتجت عنه   أزمات متلاحقة مع مختلف الأنظمة المتعاقبة في باماكو ، أزمات متلاحقة غذاها الفساد وعجز الدولة عن بناء وطن موحد، إضافة إلى الإخفاق في التنمية وفي ترسيخ الديمقراطية التي كانت تعد السبيل الأمثل لتوحيد شعب يعاني من التفرقة والتعدد الإثني والقومي والديني، ويعاني كذلك من تضارب المصالح فيه ، ما جعل الروح الوطنية والشعور بالانتماء للوطن غائبين لدى الكثيرين.(3)
بدأت الأزمة تشتعل في مالي عام 2012 حينما قامت مجموعة من العسكريين بالانقلاب على الرئيس المالي “امادو تومانى تورى” في مارس 2012، بحجة أنه قد اخفق في تجهيز الجيش وأنه قد فشل في حسم الصراع بين الطوارق المتمردين في الشمال المالي  الذي يضم مدن تمبكتو وغاو وكيدال ، ثم استغل الطوارق فرصة الانقلاب على تومانى الذي كان يمثل شوكة في حلقهم و بدأوا في تكوين حلف خاص بهم ..  يسعى لتحقيق الاستقلال الذاتي لشمال مالي الذي يدافعون فيه عن هويتهم التي تحاول الحكومة المالية طمسها(4) ففي هذه المرة أستطاع الطوارق توحيد هدفهم و توحيد  صفوفهم ، إضافة إلى اغتنامهم فرصة التمرد العسكري و انشغال السلطات في باماكو به ، ما أعطاهم أفضلية  المباغتة و التقدم السريع و السيطرة على المدن الكبرى في الشمالي المالي و من ثم إعلان الاستقلال في هذه المناطق .

2/ التدخل الفرنسي في مالي، و الاستعمار الجديد.

لا يمكن الحديث عن التدخل الفرنسي في مالي بمعزل عن علاقة فرنسا بمالي و بدول الساحل عموما، و كذلك عن السياسة التي كانت تنتهجها فرنسا في المنطقة، و الرؤية الإستراتيجية المتبعة من طرف فرنسا للحفاظ على مصالحها المتعددة في المنطقة.

جمعة, 28/10/2022 - 10:40

          ​