هناك من يرى علاقة بين التطرف والمناهج التي تقدم في المحظرة الموريتانية، لأن تلك الكتب والمناهج تبث الكراهية والتحريض، وتجاوزها الزمن، وأنها معادية للمنطق والمنهج العلمي، وأن الوقت حان لتغييرها.. ما هو رأيك؟
وهل لهذا الأمر أساس، أم مجرد تجن وانطباع ممن لا يعرف شيئا عن تلك المناهج؟
ما هو تأثير المحظرة في النشء الموريتاني، وما هي ملامح هذا التأثير، وهل ما زالت ذات إسهام حضاري؟
لا أتفق مع هذا الطرح لعدة أمور أوردها باختصار:
أولا. إحدى مسلمات علم النفس التروبي أن المناهج ليست المسؤولة عن صياغة الشخصية، كامل الشخصية، وإنما مكون من مكونات عدة.
ثانيا. أثبتت الدراسات التي أجريت في أكثر من بلد أن التعليم، يلعب دورا هامشيا جدا في جنوح الشباب إلى اعتناق الأفكار المتطرفة، إذا ما قورن بالتنشئة الاجتماعية، والوضعية الاقتصادية، والحالة السياسية للإقليم والبلد اللذين يعيش فيهما.
ثالثا. الدراسة المتأنية للتجربة الموريتانية، في سياقها الإقليمي، تثبت هذا. تقارير الأمم المتحدة تقول إن أكثر من خمسة آلاف شاب تونسي اليوم يقاتلون في سوريا والعراق، ولا يكاد الموريتانيون يذكرون، رغم أن التعليم الديني لا يمكن مقارنة واقعه في البلدين، خلال العقود الماضية على الأقل.
رابعا. لا يعرف كثيرون ممن يتحدثون عن المحظرة من الخارج، أنها لم تكن يوما بيئة ملزمة بالتدين، الذي يعتقدون أنه المقدمة الطبيعية لاعتناق الأفكار المتطرفة، بل تكاد تكون المحظرة أكثر تفلتا من القيود الدينية، من بقية المواقع في المجتمع. رغم أن العقود الأخيرة عرفت صحوة دينية بين طلبة المحاظر، كما هو الشأن في الحياة.
خامسا. مما يقوله واقع التجربة الموريتانية، وأعتبر نفسي، شبه متابع لها، أن أغلب الذين انضموا إلى المجموعات الموسومة بالتطرف، ليسوا أبناء أصلاء للمحظرة الموريتانية، وحتى لو كانوا كذلك، فلا يمكن اعتبارهم ظاهرة إذا ما قورنوا بفئام نهلت من نبعها قرونا في هذه البلاد. ولو كانت المحظرة مصدرا للأفكار المتطرفة، لكانت تنظيماتها ظهرت منذ قرون.
سادسا. الجهل بما تدرسه المحظرة الموريتانية، هو ما يدفع إلى الأحكام المسبقة، وإلى الحديث عن معاداة المنطق وبث الكراهية.
المحظرة الموريتانية تدرس أساسا علوم اللغة العربية، والفقه المالكي، والمنطق الصوري، وبعض أصول الفقه، وفي درجة متأخرة، زمنيا، ومنهاجيا، تأتي علوم الحديث، وتفسير القرآن. في حين تعتمد المجموعات التي تتبنى هذا الفكر على بعض النصوص الحديثية والقرآنية غير المتلقاة أساسا في المحظرة، وبعض الأدبيات الفكرية المعاصرة التي لا تعرفها المحظرة إطلاقا.
أما مجافاة مناهج المحظرة للبحث العلمي، والمنطق، فهي كلام مطلق على عواهنه، لا يمكن نقاشه.
أي مناهج علمية؟
إذا كانت المناهج المتعلقة بالعلوم المدرسة فيها، وهي بالمناسبة مناهج علمية منضبطة جدا لقواعد البحث العلمي، القائم على بناء الفرضيات، والبحث والتمحيص والمقارنة، وربط النتائج بالمقدمات، إذا كان الأمر هكذا فالمحظرة مدرسة له، وإن كان غير ذلك فهو بحاجة إلى تحديد، حتى نتبين مدى توارده وإياها على محل، أو تعلقهما بمناط.
الأمر إذن لا يعدو جهلا بمناهج المحظرة، وهو جهل في كثير من جوانبه مركب، لا يدرك عمَّ يتحدث حين يتعلق الأمر بالمحظرة ومناهجها، ويتجاهل الحقائق والوقائع التاريخية فيما يتعلق بمعتنقي الفكر الموصوف بالمتطرف، نشأة وانتشارا، وعددا. كما يتجاهل تاريخا ممتدا للمحظرة قبل نشأة هذا الفكر، وبروزه في تيارات معاصرة.
سابعا. طبيعة المحظرة تخلق نوعا من العزلة حتى عن الواقع الاجتماعي القريب، مما يقلل من روح التفاعلية لدى شبابها، ويمنع بعضهم من دوخول التيار العام للمجتمع بشكل مؤثر، ومتماه مع الحالة الشبابية العامة.
وطبيعة مناهج المحظرة التلقينية تضعف أيضا بعض الملكات التلحيلية، والقدرات الحوارية، فيضعف نتيجة لهذا دورها الإيجابي في نشر الوعي الديني الصحيح، كما يسهل استمالة بعض منتسبيها إلى أي تيار فكري ديني، إذا عضدت وسائل إقناع أخرى.
ثامنا. أعتقد أن الإسهام الذي كانت المحظرة تقدمه، ما زال هو هو لم يتغير، وإن كان بحاجة إلى تحسين، واستفادة من أدوات معاصرة. إن المزاوجة بين الصحراء والعلم، وحفظ مخزون الثقافة العربية الإسلامية، بصفائه الأول، إسهام لا يقدر قدره إلا من عرفه، وهو قادر على إعادة إنتاج الإشعاع الذي أنتج ذات يوم، وسار باسم البلاد شرقا وغربا.
تأثير المحظرة اليوم محدود بحدود حضورها في المجتمع، وهي منحسرة الآن بفعل عوامل التغير التي تأتي على الوجه التقليدي لمجتمعاتنا العربية، والتحولات الاقتصادية والثقافية العاصفة. إنما لها اليوم هو بقايا تأثير تأتي من الأجيال السابقة ومن التجدد في بعض نماذجها، وأعتقد أننا بحاجة إلى عودة تأثيرها الأصيل لأنها جزء أساس من صياغة الشخصية الموريتانية، فيها ترعرع أدبها، ونما فنها، ومنها خرج صيتها، وفيها أنتجت ثقافتها، لذلك فنحن بحاجة إلى إعادة هذا التأثير ورعايته.
بقلم: محمد عبد الله لحبيب