عـائدون من الموت.. شهادات، وقصص مؤثرة

"صرخة طفل أعادتني إلى الحياة".. بهذه العبارة الغريبة وصفت دنيا آخر تجاربها المتكررة مع الانتحار ، والتي تعود لأزيد من ثمان سنوات. قالتها وأتبعتها بتنهيدة طويلة أفرغت من خلالها كل البقايا والرواسب التي علقت بذاكرتها، محاولة أن تتذكر تفاصيل هذا اليوم الذي غير مسار حياتها بالكامل. أدارت عينيها متفحصة جنبات المنزل الأنيق الذي إنتقلت إليه مؤخرا رفقة زوجها وولديها، وإسترسلت في الحديث عن أسباب ودوافع إقدامها على هذا الفعل.

دنيا شابة في أواخر العشرينات من عمرها، عاشت حياة مليئة بالخداع والخيانة على حسب قولها، كيف لا وهي الوحيدة التي كانت تدرك حقيقة أن أباها كان يعاشر نساء غير أمها داخل غرفة نومهما، فقد ضبطته أكثر من مرة رفقة خليلاته وهو في حالة سكر طافح، ساعات قليلة بعد إرساله لها إلى منزل أحد أقاربهم.

الحقيقة المرة التي فتحت دنيا عليها عينها في سن مبكرة، دفعتها للإقدام على محاولة الانتحار أكثر من مرة، إلا أن خوفها وترددها كانا يقفان حاجزا أمام وقوع ذلك، إلى أن جاء اليوم الذي قررت فيه بشكل قاطع وضع حد للمعاناة التي كانت تعيشها لوحدها، حين ارتقت إلى سطح العمارة المتواجدة بإحدى أحياء مدينة طنجة المغربية، والتي عاشت فيها فصول حياتها البائسة، واضعة رجلا فوق الحافة ورجلا أخرى في الهواء. وقبل أن تغمض عينيها لكي لا تشاهد لحظة إقتراب وجهها من الأرض، إلتقطت أذناها صرخة طفل الجيران الذي ولد حديثا. تلك الصرخة التي أعادت إلى ذاكرتها بشكل سريع حلما راودها منذ الطفولة في تكوين عائلة وإنجاب أطفال، كانت سببا في بعث روح من التفاؤل بداخلها وحثها على التراجع عن فكرتها، والمضي قدما في الحياة. 

دنيا ليست استثناء بالمغرب، فهي ككثيرين غيرها فضلوا تقديم أرواحهم قربانا للمشاكل والعراقيل التي تعترض سبيلهم بدل مواجهتها. فسمير هو الآخر قرر التخلص من حياته بشرب كميات كبيرة من الأدوية، محاولا بذلك نسيان الشريكة التي كان يتمناها لنفسه، والتي فضلت الإرتباط بغيره متناسية ما عاشاه سويا، على حد تعبيره.

"كنت أحمقا".. يقولها سمير وعلى محياه ابتسامة حزينة، ويده تتحرك ببطء فوق معدته التي تم غسلها لإنقاذه من موت محقق. فهو لم يكن يتوقع أبدا أن يصل به اليأس في يوم من الأيام لدرجة أن يفكر في الإنتحار أو إيذاء نفسه، إلا أن خذلان حبيبته له كان بمثابة صدمة قوية، رجت مشاعره، وأدخلته في دوامة من الحيرة والألم، التي إعتقد أنه لن يفلح في تسكينها إلا بتناول كم هائل من الأدوية، استعصى على الأطباء في مستشفى محمد الخامس بمدينة طنجة المغربية إزالتها بسهولة.

دنيا وسمير نموذجان لآلاف المغاربة اللذين حاولوا التخلص من حياتهم بمختلف الطرق المتاحة، وهو الأمر الذي يرجع أصله وجذوره لعدة عوامل، تتجلى لدى الدكتور إبراهيم الحمداوي، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، في كون السلوك الانتحاري لدى هؤلاء، تتكون دوافعه داخل الأسرة وداخل المجتمع، فامام اللامبالاة والإهمال فيما يخص المرض أو الخلل في بدايته الأولى، فإن ذلك قد يتسبب في تفاقمه ليصل إلى ذروته، وهي القتل أو الانتحار.

وينبه الخبير السوسيولوجي، إلى أن السلوك الانتحاري يبقى دائما نابعا من حالات العجز والإحباط وانسداد الأفق في ذهن المنتحر الذي يفضل استعجال نهايته بطريقة ما، فيسقط مثل ورقة ذابلة في نسيج المجتمع، الذي لم يقدر حالته ولم يتمكن من التعامل معها في بداياتها.

من جهته، أوضح عبد الله عبد المومن، أستاذ الدراسات الأصولية والاجتهادية بجامعة القرويين،" أن الانتحار يعتبر من أعظم الجرائم وأكبر الكبائر التي حرمها وجرمها الإسلام، إذ تواردت نصوص شرعية من الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة على تحريم قتل النفس بغير حق، كما أثبتت الوعيد الشديد بالنسبة لقاتل نفسه، بسبب أو بدون سبب، بل أفصح بعضها عن سبب الجزع والسخط والذي يكون غالبا وراء الانتحار، ويكفي من الوعيد تحريم الجنة والتخليد في النار وكلاهما كاف ليعد الانتحار بلا ريب من أكبر الكبائر، حيث أن المتأمل في فقه شريعتنا السمحة يدرك مدى الصرامة والشدة في مواجهة مقتحم الانتحار، رحمة بالنفس الإنسانية".

وبخصوص المسببات، أكد عبد المومن،" أن تفشي ظاهرة الانتحار في وقتنا دال على ضعف الوازع في النفوس، وعلى انهيار كيان الإيمان في دواخلها، حتى شاعت بين العارف والمثقف والعامل والعاطل، والأنثى والذكر، والأمة من حولهم تتعامل مع الظاهرة بالتماس الأعذار أحيانا، وبقساوة العيش أخرى، وغيرها من الحجج الواهية، التي لا يجوز فيها قتل النفس أبدا، ويكفي أن الشرع أجاز للإنسان الإبقاء عليها ولو كلفه الأمر الإكراه على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان".

وسواء تعلق الأمر بضعف في الوازع الديني أو سوء في التعامل من طرف الأسرة، فإن ظاهرة الانتحار تبقى دائما تثير نفس الأسئلة، هل يستحق شيء أو موقف ما أن نضحي بحياتنا من أجله؟ وهل هذه التضحية حل لهذه المشاكل أم بداية جديدة لمشاكل أكبر وأكثر تعقيدا ؟

 

* الأسماء الواردة في الموضوع هي أسماء مستعارة تم إدراجها للحفاظ على هوية المتحدثين 

اثنين, 09/11/2015 - 09:18

          ​