وقعت للعلامة الحاج البركة البشير بن عبد الله ابن امباريگي الألفغي محنةُ بسبب أبيات قالها في رثاء الشيخ سعد أبيه – رضي الله عنه – فنسبه بعض الفقهاء إلى الردة، وبالغوا في أذيته ، من غير دليل ولا برهان، تعصبا واتباعا لاحتمال بعيد غير مقصود ولا متبادر من كلامه، والأبيات هي :
فإما كنت شبرا فيك بحر = وطود شامخ بدر بهي
فذا القرآن يجمعه جفير = صغير الحجم تمثيل جلي
ولما وقع البحث في المسألة كتب الشيخ المذكور يستفتي معاصريه ويوضح مقصوده من أبياته تلك وهذا نص المراد من كلامه
: ":سلام تام وتحية وإكرام، إلى ساداتنا العلماء وفقهم الله تعلى، نلتمس جوابكم فيمن قال: في مرثية رجل مخاطبا قبره.... (وذكر الأبيات السابقة ) ومراده ضرب المثل لإمكان ما ادعى من احتواء الظرف الصغير على الشيء النفيس، مع علم هذا القائل أن ضرب المثل عند البيانيين من أقسام التشبيه ، ولا يقتضي مماثلة كل مفرد من مفردات المشبه بكل مفرد من مفردات المشبه به، فالتمثيل مغاير للماثلة التي هي استواؤهما في صفة النفس ، ومثل لذلك "
وقد كتب أجلاء علماء منطقةإگيدي في هذه النازلة، وأجمعوا على براءة الشيخ البشير من تلك التهم الجائرة، فممن كتب في ذلك العلامة حامد بن محمذن بن محنض باب الديماني بما نصه :
"أما بعد فإن مثل البشير لا يحمل كلامه إلا على أحسن محامله وأبعدها عما يؤدي إلى الطعن، وقصد الاستدلال على إمكان احتواء حاو صغير على عظيم القدر ، وبيان ألا غرابة في ذلك بوقوعه، في الجفير الحاوي للقرآن العظيم البالغ من عظم القدر إلى حد لا يقدر قدره، محمل إن شاء الله قريب، وهو اللائق بمن هو من الخاصة المنزهين عن أن يكون مرادهم تشبيه محوي ما ، وإن بلغ من ما عسى أن يبلغ بكتاب الله تعلى ، والأفهام مختلفة فقد يسبق إلى فهم السامع ما لم يقصده المتكلم فيعذر لرفع الخطأ"
وأجاب العلامة الرباني الشيخ محمد سالم بن ألما اليدالي رحمه الله بما نصه :
" الحمد لله الذي نهى عباده المؤمنين عن الجولان في ميادين أعراض إخوتهم، والصلاة والسلام على من قال : " وهل يكب الناس في النار إلا حصائد ألسنتهم"، أما بعد فقد تأملت بيتي العالم الأبر الحاج حامل كتاب الله تعلى وتاليه آناء الليل وأطراف النهار، شيخنا ووسيلتنا إلى الله تعلى : البشير بن عبد الله نفعنا الله تعلى ببركته، وبركة علومه، فإذا أنا لم يظهر لي مما تُقُوَّل عليه فيهما قليل ولا كثير، وجلب حقيقة ذل يطول، إلا أني تأملتهما غاية التأمل، فلم يظهر لي فيهما شيء ، وما قلتُ هذا حسنَ خلق بل هو الذي عندي، بل لا آمن من لزوم الأدب لمن تكلم فيه بسببهما، إذ حرمة مطلق المسلمين معلومة، فكيف بمن هو بمنزلته نفعنا الله ببركته " .
وكتب بنحو ما كتب به الشيخان أعلاه: الشيخ الفقيه محمد بن سيدي بن حمين رحم الله الجميع. ( راجع نصوص فتاواهم في المجموعة الكبرى للدكتور يحيى بن البراء - باب الردة_)
ولا تختلف هذه النازلة كثيرا عن ما وقع فيه نقاش بين المدونين مؤخرا، من كلام منسوب للشيخ محمد الحسن بن الددو، يتعلق بلباس النبي صلى الله عليه وسلم زيَّ قومه . فقام بعض الناس باقتطاع كلامه من سياقه، وزعم أن فيه ما يجب إنكاره.
ولا يخفى أن تعظيم جناب النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره واحترامه بغية كل مسلم، خصوصا العلماء العاملين، وأنه من أعظم الواجبات وآكد الفرائض، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فلا يتهم مثل هؤلاء بالتقصير في تعظيمه والأدب معه، خصوصا إن لم تقم على ذلك قرينة عدا احتمال بعيد لغة وقصدا .
ومع أن العدول عن مثل هذه الألفاظ التي قد يتوهم منها ذو فهم فاسد خلاف المقصود أولى، والاحتراز منها آكد، لكن مقام التعليم والاستدلال قد يضطر العالمَ إلى مثل هذا الكلام، حتى يبين للناس ما أشكل عليهم ، ويعتمد على السياق والبساط المؤذن برفع المحذور ، ولا لوم عليه بعد هذا، من احتمال بعيد يأباه السياق وتمنعه القرائن، وقد فهم قوم من المبتدعة من بعض آيات القرآن ما ليس مقصودا منها، نتيجة سوء الفهم والتمحل لإجراء النصوص على ما انطوت عليه عقائدهم وأغراضهم الفاسدة.
إن التمحل التعصب في إلصاق مثل هذه التهم بمن هو منها براء، ربما يكون من إشاعة الفاحشة في المؤمنينن، نسأل الله السلامة والعافية.
وعلى كل حال فمن عرف حسن قصده، وجب أن يحمل كلامه على أحسن محمل، وألا ينسب إلى ما لا ينبغي، قال الجلال السيوطي في مقدمة رسالته: " تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء"، بعد ما ذكر أنه سئل عن نازلة صورتها أن رجلا ذكر رعي النبي صلى الله عليه وسلم للغنم في سياق غير مرضي: :
" فسئلت ماذا يلزم الذي ذكر الأنبياء مستدلاً بهم في هذا المقام ؟ فأجبت بأن هذا المستدل يعزر التعزير البليغ لأن مقام الأنبياء أجل من أن يضرب مثلاً لآحاد الناس ولم أكن عرفت من هو القائل ذلك ، فبلغني بعد ذلك أنه الشيخ شمس الدين الحمصاني إمام الجامع الطولوني وشيخ القراء وهو رجل صالح في اعتقاده ، فقلت مثل هذا الرجل تقال عثرته وتغفر زلته ولا يعزر لهفوة صدرت منه ،"
انتهي كلام السيوطي.
ومن لازم إقالة العثرة ألا يشنع على المتكلم بمثل هذا ممن عرف حسن قصده، وطيب نيته، وألا ينسب إلى الابتداع أو تنقيص الجناب النبوي الشريف.
من صفحة الأستاذ محمد يحيى احريمو على الفيس بوك