ما إن يفتح "ماكيافيل" عينيه في الصباح الباكر حتى يتفقد بصره الضائع و يقوم بالبحث عن "نظاراته" لولوج العالم، ملهفا هل مازالت على قيد الحياة تلك الزجاجات أم أنها تكسرت؟
هل فقدت إحدى عيونها الجميلة التي تريك العالم من دون أن تسأل أحدهم عما يحدث حولك؟حتى لمسها بيده فإذا بواحدة قد ضاعت ولم يسعفه الوقت ولا بصره في ظلام الظرف لوجودها ..فأبت نفسه أن ينظر بواحدة فنزعهما كليهما...
وسار متكئا على حدسه ومألوفه الطفيف في المكان.يا إلهي ..من سيكتب حروفي التي أريد عن اشياء أشعرها الآن ..وكيف سأسير بلا عيون هذا المساء لا شك ستكون على طريقي أشياء كثيرة مما أريد رؤيته وسأشرئب له وسألتفت لأكثر من مرة لأعرف ما خلفي وأمامي ؟
هل سيساعدني المألوف في خطى عاثرة أتبعها نحو مجهول؟ أم سيكلني للحدس والمقارنة.هل سأفقد نظاراتي يوم السبت عند "كانال"؟ بأي عيون سأشاهد عودة "اليونيل مسي" ولقاء الابيض على أرضه،
أسرب القطا هل من يعير عيونه..؟ لعلي أرى بالقرب ماكان بالبعد
كيف سأعرف أن ذلك القادم من بعيد هو من كنت أنتظره ؟
أي مفاجأة ستحدث حين نضطر للشعور بحس الآخر، لنضحك معه ونشاركه الكلام فيما لا نريد.؟
إن جميع المعارف التي يكتسبها الانسان في حياته لا تأتيه من غير اللغة وعن طريق الحواس، التي هي الرابط الذي يجمع الانسان بالعالم، حيث إن هذه الحواس الضعيفة التي نملكها هي التي تربطنا بالكون، ومن خلالها نشعر العالم وندرك قيمة وجودنا.
وحين نفقد إحدى هذه الحواس أو نفقد بعضها فإننا نجلس بين الحدس والعجز، غير مقتنعين بقدرتنا على مجاراة الآخر في الوجود ونعجز عن تلبية جملة كبيرة من اضطراراتنا وأعظم من ذلك أننا سنصاب بصدمة نفسية غائرة لايمكن أن نفصح عنها، لأي أحد حتى لمن نحب لأننا نشفق على أنفسنا أكثر من الجميع؛ رغم تفاوت الناس في ترجمة وشعور النكبات.. ، بل نتجاوز ذلك إلى مستوى بعيدا من الضياع ..نشعره وكأننا فقدنا جزءا كبيرا من وجودنا، وحين يقتنع الانسان أنه أصبح عالة على الآخر في شعوره ووجوده فإن الألم والنقص والضياع والخوف سيطوقان وجدانه، وتصيح ذاته بكل حرقة على ذلك، وهنا يختلف الناس فمنهم من يقتله ارتداء الصبر ولا قدرة له على تحمّل حقيقة ذاته دون الآخر، كما منهم من يعشق التحدي وتمتلكه العصامية و لاتزحزحه الصدمات، فهو يعيش ذاته في نفسه بعيدا عن العالم ولايحلم بغير الوحدة وتتجلى له المعرفة في الصمت من دون كبير عناء.ويحتوي البصر على مكانة كبيرة من الحس وله دور كبير في ترجمة المعارف وذلك لارتباطه المباشر بالتصور ولتطابق العين مع القلب، فهي بابه الوحيد، وليس يعوضها أي من الحواس الأخرى، لعظم الكتلة المعرفية التي ينقلها البصر للدماغ والجهاز العصبي، فالعين تنقل جملة واقعية متكاملة...
حياة بلاعيون هي نقص في الوجود وابتعاد عن الكون وانتقال عظيم في البنية التصورية من الترجمة إلى تشكيل المعرفة وصناعة وجود يقتنع به الانسان.
فحين يفقد الانسان بصره يجاهد في تعويض افتراضي للبنية الحسية التي كانت تزوده بها عيناه، وذلك عن طريق استكناه المألوف وارتفاع عمل الخيال والتصور بدلا من الترجمة؛ حيث أن الدماغ في الحالة الطبيعية يقوم بترجمة ما توحي به المراكز العصبية بسرعة فائقة، حيث أن العين في الحالة العادية تجعل الانسان في ميدان الوجود لايخصه عن اقتحام معرفة ماحوله سوى نظرة واحدة، أما حين يفقد البصر فإن ذلك الباب يغلق وتقوم الحواس الأخرى بفتح باب التصور والخيال، لتقريب البنية الواقعية وهنا يبرز دور المألوف والحدس والتوقع، وهي كلها أسلحة يملكها الدماغ ويستخدمها عند الاضطرار، لانتاج معرفة يقتنع بها الانسان في صمته.
ديدي نجيب