كنت ذكرت في مرات سابقة بان العالم العربي المتقلب بين الأزمات السياسية والحروب الأهلية، أمامه خياران لا ثَالِث لهما، فاما خيار التوافق والتسويات السياسية السلمية، او التمادي في طريق الحرب الأهلية المهلكة للأرواح والأبدان على النحو الذي تعاني منه أقطار عربية كثيرة، من الجارة ليبيا الى مصر وسوريا واليمن والعراق وغيرها. وقد اثار هذا التصريح وقتها قدرا من الجدل والتعليق في بعض وسائل الاعلام بزعم التهويل من المخاطر في بلدنا. الا انني كنت ومازلت مقتنعا بان تونس كانت معرضةً لمخاطر جمة، ولنذر فتنةً حقيقية وقاها الله شرها، بل نحن لم تكن بمنأى عن الكارثة المحقة التي وقعت فيها أقطار عربية أخرى ،لولا ارتفاع صوت العقل والحكمة بين نخبتها السياسية والاجتماعية للخروج من المساحات الخطرة ووضع القاطرة التونسية في الوجهة الصحية والسليمة.
صحيح ان طبيعة هذه الصراعات وملامح هذه الأزمات المستفحلة التي نراها اليوم تختلف من بلد عربي الى اخر، والكثير من هذه الصراعات التي تشق العالم العربي، تختلط فيها عوامل السياسة والصراع على النفوذ والحكم، بعوامل الدين او الطائفة او المكون العرقي، فضلا عن التدخلات الخارجية ، ورغم ان من المسلم به أن النسيج المجتمعي التونسي يظل اكثر تماسكا من الكثير من البلدان العربية الأخرى، بحكم التجانس الديني والغوي الذي تتمتع بِه تونس، ولكننا في نهاية المطاف لسنا بمنأى عن تأثير الجغرافيا وخصوصا تأثير الجوار من حولنا ومن ثم لا يمكن الاطمئنان هنا الى مقولة الفرادة او الخصوصية التونسية. وإذا كان ثمة من نجاح يذكر في تونس، فهو يتمثل في القدرة على الحد من تاثيرات المحيط السلبية، وتقوية المناعة الذاتية في الجسم السياسي التونسي.
ولوضع الأمور في سياقها الْعَام بما يساعدنا على تقريب الصورة وفهم معطيات الواقع التونسي المتشعبة، يحسّن بِنا في هذا الصدد العودةً قليلا الى الوراء، وتحديدا الى السنوات الاولى التي أعقبت الثورة،
لقد تمخضت انتخابات ٢٣ أكتوبر ٢٠١١ عن انتصار واضح للترويكا مع رجحان واضح لكفة النهضة، وكان ذلك في إطار موجة تغيير واسعة غمرت المنطقة في إطار ما سمي بالربيع العربي. بيد ان بقية القوى، سواء تلك التي خيرت مقاطعة الانتخابات بصمت، كما هو شان المكون الدستوري والتجميعي، او تلك التي شاركت في الانتخابات ولم يحالفها الحظ كما هو شان المكونات اليسارية التي تشكلت فيما بعد، في إطار الجبهة الشعبية ،فقد خرجت من تجربة الانتخابات بمرارة شديدة ولم تحتمل التحول الفجئي الذي حصل في المشهد السياسي العام، خاصة وان بعضها كأن يتغذى من مناخات الصراع مع الإسلاميين تَحْت عنوان الدفاع عن مكتسبات الحداثة تحت خيمة النظام السابق.
تعامل كل طرف بطريقته الخاصة مع هذه المعطيات الجديدة التي أفرزتها أنتخابات ٢٠١١ ، اذ عملت الترويكا على تثبيت مواقعها استنادا الى الشرعية الانتخابية، مثلما حاول الطرف الاخر الاستقواء بالشارع والضغط الإعلامي لزعزعة مواقع نخب الحكم الجديدة، خصوصا بعد كارثة الاغتيال السياسي ، ثم التحولات الدرامية التي جرت في المحيط الإقليمي ، وهكذا انتهى الامر الى نوّع من العطالة السياسية الخطيرة نتيجة تعادل موازين القوى تقريبا بين الطرفين، اي الحكم والمعارضة. فلا نحن كنّا قادرين على ان نحكم بأريحية، ولا المعارضة كانت قادرة على إزاحتنا والحلول محلنا، ومثل هذا الوضع كان ينبؤ بالسير نَحْو تمديد الأزمة، ومفتوح على احتمالين . اما عقد تسوية سياسية تاريخية بين الطرفين تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى الجديدة الآخذة في التشكل في الداخل والخارج، ومن مقتضياتها القبول بإعادة بناء المشهد السياسي على نحو جديد، او التمادي في خط التصعيد المتبادل ودفع الاستقطاب السياسي والأيديولوجي الى حده الأقصى، مع ما يحمله ذاك من نذر الانهيار السياسي والاقتصادي المحقين، بما في ذلك خطر انهيار الدولة في مرحلة انتقال قاسية وصعبة وجوار مدجج بالسلاح سيساهم قطعا في تغذية هذا الصراع الى امد بعيد.
من المؤكد ان هناك متغيرات جرت في الإقليم لم تكن لصالح أطراف الحكم، ومن ذلك الانقلاب الذي حصل في مصر تَحْت عنوان ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ ، ثم الاخطر من ذلك تشكل جبهة إقليمية مناهضة للربيع العربي تقودها بعض دول الخليج المرعوبة من التغيير بعد ان نزلت بثقلها المالي والاعلامي، ثم دخول ظاهرة الاغتيال السياسي على الخط، فَضْلا عن تحمل اعباء الحكم في مرحلة بالغة التعقيد والصعوبة من دون امتلاك أدوات الحكم الحقيقية او سابق خبرة في إدارة شؤون الدولة.
كل هذه المعطيات بمكوناتها المحلية والإقليمية انعكست على نحو أو أخر في انتخابات ٢٠١٤ التي كانت في محصلتها النهائية لصالح نداء تونس، ولكن من دون رجحان كامل، مثلما كانت انتخابات ٢٠١١ لصالح النهضة، بيد انه يتوجب الانتباه الى ان هذه المعادلة في المحيط الإقليمي، وحتى الدولي، كما هو الامر في الداخل ليست مستقرة، بل هي تظل متحركة وبالغة السيولة. بما يعنيه ذلك انها لا تسمح لأي طرف بالانتصار الكامل والغاء الجهة المقابلة ، فلا النهضة كانت قادرة على إلغاء نداء تونس بحجة انه وريث النظام القديم، ولا نداء تونس قدر على إلغاء النهضويين بزعم انهم دخلاء على الدولة، ولعل هذا الامر لم يفهمه جماعة حزب الموتمر ووريثه اليوم في الحراك، مثلما لم تفهمه جماعةً محسن مرزوق التي تريد ان تمتطي مجددا مركب الاستقطاب السياسي والأيديولوجي بدوافع يسروية طفولية.
وهنا دخلت إكراها السياسة وضروراتها لتفعل فعلها في الطرفين، باتجاه قبول اعادة هندسة المشهد السياسي على نحو لا يلبي بالضرورة رغبات وحسابات الجهتين، وخصوصا قواعد الحزبين المشحونة بمخلفات التجاذب والحملات الانتخابية، وقد تطلب ذلك التحرك باتجاه الموقع الوسط، بما في ذلك الاقدام على تنازلات قاسية ومؤلمة لكل منهما، ويحسب للشيخين الغنوشي والسبسي برجماتيتهما وقدرتهما على التقاط اللحظة التاريخية فبل فوات الاوان، مع ما يقتضيه ذلك من مرونة ومساومات سياسية متبادلة، قد وساعد على ذلك وجود خيمة الرباعي الراعي للحوار الذي سهل على مختلف الأطراف مغادرة المريع الاول في المفاوضات .
بدأت رحلة الوعي هذه، ان جاز القول، بلقاء باريس التاريخي ثم سلسلة المفاوضات الاخرى التي كانت تجري وراء ستار وخلف أبواب موصدة، ما بين سكرة(بيت الباحي) والنحلي (بيت الغنوشي) والتي كنت طرفا مباشرا فيها، ولم أكن مجرد متابع أو مراقب لها.
فُرضت اكراهات السياسة في بداية الامر على النهضة الخروج من الحكم وتسليم مقاليد السلطة لحكومة كفاءات وطنية بعد انتزاع المصادقة على الدستور وتحديد تاريخ للانتخابات، ولكن إكراهات السياسة المُرة ايضا، فرضت بدورها على الطرف الآخر، اي نداء تونس بعد الانتصار النسبي الذي سجله في انتخابات أكتوبر ٢٠١٤، وبعد سقوط الحكومة الاولى قبل ان يكتمل تشكيلها، ان يقبل بالشراكة مع النهضة وتجاوز تِلْك الثنائية المانوية بين نحن وهم، التي قاد على اساسها حملته الانتخابية وجلبت له بعض الانصار. صحيح ان هذا الخيار له كلفته السياسية على الجهتين، بما في ذلك قبول نوع من اعادة تموقع رجالات العهد القديم من جهة النهضة، ثم قبول التعايش ومن ثم الشراكة السياسية مع من كان يصنف في موقع العدو من جهة النداء. ولكن هذا الخيار ومهما كانت بعض تبعاته، الا أَنَّه تغلب فيه مقادير الحسنات على السلبيات، والسياسة في نهاية المطاف بخواتمها ونتائجها، وهذا ما لا يفهمه الأيديولوجيون المتصلون من اليمين واليسار على السواء .
بدانا نحن هذه الرحلة الجديدة في حركة النهضة تحت عنوان التوافق وبدأها منافسنا على الجهة الأُخرى، أي نداء تونس، تحت عنوان التعايش الذي استخدمه الرئيس الباجي،. واليوم يكتشف كل منا فضيلة هذا التوافق الذي خطى خطوة اكثر وأبعد من مجرد التعايش، بديلا عن ثقافة المغالبة والاستحواذ، قد تكون هذه خطوة تكتيكية أملتها ضرورات المرحلة وإكراهات السياسة للطرفين، ولكن تتجه هذه الخطوات الى ان تكتسب طابع رؤية شاملة ومكتملة الأركان تتعلق بنظرية في الانتقال الديمقراطي في بلد صغير ومحاط بعواصف هوجاء من كل جانب، في اطار ما اصطلح على تسميته اليوم بالنموذج التونسي او الاستثناء الديمقراطي التونسي. وإذا قدر لاشقائنا في ليبيا، الممتحنين بحرب اهليةً طاحنةً الالتزام باسس الاتفاق الذي وقعوه في الصخيرات المغربية اخيراً، فمعنى ذلك ان النموذج التوافقي التونسي يعزز رصيده ويكتسب مساحات جديدة على حِسَاب نماذج الحروب الأهلية وحكم العساكر الغليظ التي يراد تسويقها مجددا في العالم العربي.
د.رفيق عبد السلام / وزير خارجية تونس السابق عن حزب النهضة