تونس في مهبّ السرياليّة السياسيّة

ينفتحُ المشهد السياسي في تونس هذه الأيام الأخيرة على واقع سرياليّ جديد لم تألفه الطبقة السياسية التي لفَّها نظام “الحبيب بورقيبة” و” زين العابدين بن علي” بضباب لا يكاد ينقشع. والسمة الغالبة على هذا المشهد هو النفور من التورّط في المباشر في الحكم بعد أن كان الجميع يتلهف على الغنيمة.فالحزب المتقدّم في الانتخابات الأخيرة”نداء تونس″ تهرّب من المسؤولية ،ودعا شخصيّة من النظام القديم(الحبيب الصيد) لتشكيل حكومة سيطر عليها ائتلاف رباعي(نداء تونس/النهضة/آفاق/الوطني الحر).

ويتّضح جليّا من خلال التشكيل الحكومي الأخير  أنّ نصيب الحزب الثاني”حركة النهضة” لم يكن ملائما لعدد المقاعد التي حصل عليها في البرلمان.حيث تراءى من خلال هذا الواقع الهجين  وكأنّ  حزب “حركة النهضة” زاهد -هو الآخر- في الحكم وغير متعطّش لأخذ حقائب وزارية في حكومة “الحبيب الصيد”.

ويحاول حزب نداء تونس فلسفةَ اختياراته وتبريرَها لأنصاره ومعارضيه، بالقول إنّ عدم دعوة قيادي في الحزب لتشكيل الحكومة تعبير عن حسن نيّة لكلّ الفرقاء السياسيين بعد أن تعالت أصوات من عديد الأحزاب السياسيّة المتنافسة يمينا ويسارا، تحذّر من تغوّل الحزب الحاكم إذا تمكّن من السيطرة على قرطاج (قصر الرئاسة) و وضع اليد على القصبة (مقر رئاسة الوزراء).وفي المقابل تسوّق حركة النهضة لفكرة تساميها ،وتعاليها ،ورغبتها في إنجاح المسار الدموقراطي عبر الإقدام على تنازلات مؤلمة من أجل مصلحة تونس

!!!لفائدة غريمها السياسي الذي تحوّل في خطابها الرسميّ من مصنع لرسكلة النظام القديم إلى شريك في الحكم يدعم استقرار البلاد !!!!

ولم تمض سنةٌ على وصول “نداء تونس″ إلى الحكم حتّى دكّه “تسونامي” الزعامات،وصراع الأجنحة،وتجاذب الشقوق.

وانطلقت حُمَّى الاستقالات بدءً بانسحاب “محسن مرزوق” مدير حملة الرئيس في الانتخابات الرئاسيّة الذي لم يجد أرضية تفاهم مع الابن المدلّل للرئيس “حافظ قائد السبسي”، وانتهاءً باستقالة عدد من النواب ،وتشكيل كتلة برلمانيّة جديد داخل البرلمان.

وحتى جبّة الزعيم “بورقيبة”  التي أراد رئيس تونس الجديد “الباجي قائد السبسي” أن يتحلّى بها ليدغدغ المشاعر ويستفزّ الحنين إلى الماضي ، سرعان ما اكتشف التونسيون أنّها ليست على مقاسه ،رغم كل المحاولات اليائسة لتقليد باني الجمهوريّة الأولى.

وانقشعت سحابةُ الوهم من خلال  مسلسل انهيار حزبه  إذ تبيّن أنّ الرئيس الذي أراد أن يكون رئيسا مجمّعا لكلّ التونسيين، فضّل”الأبوّة البيولوجيّة” على صورة “رجل الدولة” عندما ساهم في تفتيت الحزب عبر العمل على ضمان مكان لابنه رغم محدودية تعليمه وقلّة تجربته السياسيّة.

وفي الوقت الذي كان فيه الجميع ينتظر انقضاض الخصم السياسي “حركة النهضة” على الفرصة السانحة وتقدّمه-باستحقاق انتخابيّ- لاسترجاع السلطة بعد أن أصبح الحزب الأوّل تحت قبة البرلمان،جاء ما يعزّز ما أسميناه “سرياليّة الحكم”في تونس.إذ لم يتقدّم هذا الحزب لنيل المكان الذي يخوّله له الدستور داخل البرلمان وخارجه، واختار دعم رئيس الوزراء ،والتوافق على  تحوير طفيف بدا من خلاله حزب نداء تونس وكأنّه لم يفقد المرتبة الأولى. فهل بلغت النهضة درجة من الزهد في الحكم غير مألوفة في الوطن العربي الذي يحوّل فيه كلّ حاكم بلاده إلى رماد وأنقاض من أجل كرسيّ الحكم؟؟

الحقيقة أنّ حزب “حركة النهضة” مدركٌ لصعوبة المرحلة، ومقتنعٌ بأنّ الوضع الاجتماعيّ والاقتصاديّ في البلاد  قد بلغ درجة من التعفّن يصعب معها إيجاد العلاج. فاختار أن يترك “حزب نداء تونس″ يواجه مصيره أعزلَ من الحلول، ليتمرّغ في وحل الصعوبات الاقتصادية وركود الاستثمار الداخلي والخارجي شاربا من كأس العلقم السياسيّ  الذي ذاقته “النهضة” على مدار ثلاث سنوات عجاف من تاريخ تونس.

والمحرّك الأساسي في  هذا الاختيار هو الانتخابات القادمة التي باتت مقتنعة بالفوز بها، بعد أن تيقّنت بأنّ حزب “نداء تونس″  الذي هزمها في الانتخابات السابقة  هو مجرّد طفرة سياسية سرعان ما ستزول بزوال سبهها(الباجي قائد السبسي) الذي بلغ من العمر ما لا يسمح له بالتفكير في مصير الحزب ،أو  في مصيره الشخصي بعد أن حقق أمنية حياته  بدخول قصر قرطاح حاكما وآمرا بعد أن كان يُدْعَى إليه وزيرا مأمورا فترةَ حكم الزعيم بورقيبة.

ويعدّ الوضع السياسي القائم الآن ترجمة وفيّة لما كان قد صرّح به زعيم حركة النهضة”راشد الغنوشي” تعليقا على استقالة حكومة”علي لعريض” وتعويضها بحكومة تكنوقراط برئاسة”المهدي جمعة”: خرجنا من الحكومة ولم نغادر الحكم”

 فعلا، لاشيءَ يمرّ ،في تونس اليوم، دون موافقة حركة النهضة.وكلّ مَنْ دخل بيتها ،أو اقترب منه فهو آمن . والحكومة رهنُ إشارتها تحوّل اقتراحاتها إلى أوامر.فعندما انزعجت من سلوك وزير الشؤون الدينيّة”عثمان بطيخ” الذي عزل بعض الأئمة ،استجابت الحكومة لقرار الاستغناء عليه رغم أنّ الوزير كان ينفذ القانون.

محصّلُ الواقع السياسي في تونس حزبان كبيران (نداء تونس/حزب حركة النهضة) متحالفان في الظاهر متباينان في الغايات والأهداف. الأوّل انهار وتهاوى إلى قاع لا يستطيع النجاة منه. والثاني كان يريد له الانهيار لكنه لم يتوقع أن يكون خصمه المتورّم ،كذبا وإعلاماً، وَهِنًا كبيت العنكبوب .لذا هو لا يريد أن يُجْهِزَ عليه بل كلُّ همّه أن  يعينه على الوقوف ليحتمي به من نيران الحكم التي تصيب من يقربها بالفشل والزوال، في انتظار أن تتهيّأ الظروف السياسيّة للعودة إلى مسرح الحكم المطلق ليشرب الجميع من البحر. والنهضة التي لقّحتها تجربة الحكم، مدركة أنّ الجغرافيا والتاريخ قد تآلبا عليها ليجعلا من عودتها “عارية” إلى السلطة أشبه بالانتحار السياسي.

ولعلّها تكشف-إذ تصمت-للباجي قائد السبسي الذي لم يعد لديه ما يخسر في اللعبة السياسيّة ، أنّ من اتخذ الأيام والليالي والأحلام والإعلام َ دثارا و غطاءً،وجد نفسه عاريا من حيث توهّم السّتر والأناقةَ.

 
أربعاء, 03/02/2016 - 09:01

          ​