دعنا نتجاوز الأزمة التي يرقد بها بلدنا من الاقتصاد إلى القانون، ونمر مر الرياضة على واقع الاعلام المحلي الذي يرقد في مرحلة الانعاش منذ فترة، متجاوزين الأسباب والوسائل التي سلكت به إلى مرقده المحزن، فقد هزل جسمه وشحب وجهه وساء منظره، وكان آخر خبر يصلنا عنه أنه لم يعد يذق من القوت إلاّ اليسير، ولم يعد يجد ما يسدّ رمقه غير ما يرمى في سلة عالم التواصل الاجتماعي من فضلات وبقايا شحناء وكبر وتنافر بين أبناء وطنه.
ذلك ما يلفت انتباه المتابع للمادة الاعلامية التي تتصدر مواقعنا الاخبارية، وأصبح "الفيسبوك" على وشك احتلال آخر قلعة من قلاع الاعلام حيث استقطب جميع الذين كانوا من حاشية المواقع الاخبارية، وسبا كل حشدهم وجند كل الاقلام التي كانت تسعف الاعالم في أيام صيفه، وأنتج رواده من خلال تفاعلهم مقامات جديدة ومكانة شامخة تنازع المواقع مساحتها الاعلامية التي تتحرك بها، وأعني بذلك رتبة "المدوّن" والتي لا أجد لها تعريفا يفيها حقها فهي أقرب للدعاية ولا حدّا يجعلنا نفرق بين المدون والمدمن على النشر في عالم التواصل الاجتماعي، وكثيرا ما توزن قيمة المادة الاعلامية الجديدة التي تؤخذ بالسلف من " الفيسبوك" بمكانة وقدر كاتبها في ميزان الواقع فإذا كانت له سابق معرفة مع عدد كبير من الصحافة فهو مدوّن عظيم، اقرء له، و يكتب عرقه بالذهب الابريز، وكذلك إن كان له حقد على أحد عالم كان أو فقيه، أو يسم جهة سياسية ألوانا السباب أو مقيم على تجريح شخصية وطنية أو كان من أصحاب القضايا المثيرة وأحسن لو كانت في الاجتماعيات او تتحدث عن شيئ يتصل بالنساء وأخبارهن.
وما جعلني ألفت انتباهكم لهذه الظاهرة هو أنك لا تجد اليوم مادة إعلامية خالصة طبخت بمقدّرات مهنية خالصة، فلا تقرير يشفي الغليل ولا استقصاء لأي حكاية سبق وأن تمت إثارتها هنا، فجميع القصص المثيرة تختفى لغير رجعة وبدون الوقوف على تفاصيلها الدقيقة، وعندما تقوم جهة إعلامية بانشاء تقرير ما فإنها تطليه بألوان من السياسة والانتهاز ولا تترك به موضع قدم بريئ يفيد القارئ الحيادي.
وأصبح كل عمل الاعلاميين أن يفتحوا عيونهم على مواقع التواصل الاجتماعي ويقومون بمتابعة صفحات معلومة العدد مشهورة، ويأخذون ما أنتجت من غذاء فيحرّفونه عن مواضعه بعناوين على بابه يستجلب المتطلع للجديد، وحين يواصل به يجده من صناعة قلم آخر،ويصب في واد آخر.
وهنا لعبت الأسماء المستعارة دورها الكبير في تغيير وجهة الاعلام وباتت تتلاعب بشهية قراء الأخبار وتحصد السبق في أكثر من وجهة، وخصوصا في تفاصيل القصص التاريخية وأسباب الاقالات التي حصلت لشخصيات سامية وغير ذلك مما يلقفه المتعجل دون مسكة من تريث اواستقصاء لمعرفة مصدر فرحه ومعرفته ومن أين جلبت هذه المعلومات الخطيرة والتي سيتم تداولها بكل سهولة وعلى نطاق واسع.
إننا نعيش في مجتمع بدوي بسيط ومفتون بالحضارة إلى حد بعيد، ومن طبعه أنه يحكي لك ما سمع أو ما علم من دون عزو أو تدليل على مصدره ويختلط فيه الرأي بالموقف والاستفهام بالخبر، وتتجسد هذه الأخطاء الاجتماعية في المادة الاعلامية فالذين يزودوننا بالأخبار هم أيضا من هذا المجتمع المولع بالجديد وتتحكم فيهم سمات البداوة فكلهم يحب أن يكون الأصل الأول والمصدر الوحيد لكل طارئة، ثم إنهم يتفننون في تفسير كل شيئ حتى يثمر ما لا يمت له بصلة، وكان آخر صيحة في الاعلام أن يعيش على فتات "الفيس بوك"، وهنا أريد أن أوضح مسألة أن حقيقة عوالم التواصل الاجتماعي هو خدعة نصبها الغربيون للايقاع بالعالم، وجعله يشاهد نفسه بنفسه، ويتفاعل على الملأ واشراك الجميع في الانفعالات النفسية ، وهو كذلك امتحان نفسي للجميع فنحن ندخله على أنه افتراض في حين أنه لا يوجد افتراض، فحتى الأسماء المستعارة خلفها انسان موجود ويتأثر ويعبّر عن شعوره، من هنا يمكن أن نعي قليلا من حقيقة واقعنا الاعلامي وعلاقته بعالم التواصل الاجتماعي.
وخلاصة القول إنه يمكن أن نتجاوز للاعلام اليوم عن مسايرته لعوالم التواصل الاجتماعي وننصفه في اخفاقه بجانبهم، فنحن نعيش عالم السرعة، كل انسان يريد أن يعبر هو الأول والبقاء للأسرع، ثم يجب أن نعترف أن إعلامنا الالكتروني يعيش في أزمة مادة وانتاج، فلا مادة ولا انتاج لديه ولا نكهة في مائدته، وأخيرا نوضح أن اتكاله على صفحات "المدونين" وتأويل مواقفهم وصباغة أفكارهم وتطويعها للقارئ هو استسلام وقصور وفشل غير مقبول من حقل يستقطب آلاف الأقلام والرجال، أما حين يمسي ويصبح باسطا كفيه لماء لا يصل فاه، متكئا في قوته على فضلات الفيسبوك فاقرء مني عليه السلام .
ديدي نجيب