لافروف والتاريخ: فلسفة المصاهرات

في مقالة بعنوان «سياسة روسيا الخارجية: خلفية تاريخية»، نشرتها مؤخراً مجلة «روسيا في الشؤون الكونية» وترجمتها وزارة الخارجية الروسية إلى الإنكليزية على موقعها الرسمي؛ يبدأ سيرغي لافروف، وزير خارجية الاتحاد الروسي، من التذكير بماضي الزيجات الملكية التي أتاحت لروسيا أن تتصدّر تيجان أوروبا: في القرن الحادي عشر كانت ثلاث بنات للأمير الكبير ياروسلاف الحكيم قد أصبحن ملكات النروج/ الدانمرك، هنغاريا، وفرنسا؛ وشقيقته تزوجت ملك بولندا، وحفيدته إمبراطور ألمانيا. ولكي تقترن قائمة المصاهرات هذه بتيجان أخرى، ثقافية وعلمية وأدبية، يقتبس لافروف شاعر روسيا القومي ألكسندر بوشكين: «لم يتجاسر البرابرة على ترك روسيا خلف ظهورهم، فنكصوا إلى هضابهم الشرقية، والتنوير المسيحي تمّ إنقاذه على يد روسيا مستباحة ومحتضرة». قبل هذه وتلك، كان لافروف قد ذكّر قارئه بأنّ اعتناق المسيحية في روسيا، سنة 988، هو الذي عزّز مؤسسات الدولة والعلاقات الاجتماعية والثقافة، وجعل البلد في قلب سيرورات التحديث الأوروبي…


وبعد أن يؤكد، «بدون شكّ» كما يقول، أنّ ثورة 1917 كانت «مأساة لأمتنا»، على غرار كل الثورات؛ يشير إلى أنّ أوروبا الغربية استلهمت المفكر الروسي بيتيريم سوروكين في كثير من نماذج التحويل الرأسمالي والاشتراكي، ومع ذلك فإن العقود الأخيرة شهدت عملية معاكسة، في أمريكا أيضاً، من حيث انحسار الطبقة الوسطى، وازدياد اللامساواة الاجتماعية وتفكيك معايير ضبط الاستثمارات الهائلة. في المقابل، كان توسيع الحلف الأطلسي، ليشمل دول أوروبا الشرقية وبقايا حلف وارسو، بمثابة «خطأ مأساوي». وهكذا فإنّ جوهر مشكلة السياسة الأوروبية يكمن في إغفال الطابع المترابط للعالم المعاصر، وأنّ العلاقة مع روسيا لا يمكن أن تستأنف تقاليد الحرب الباردة…
حسناً، فما مبرر هذه الاستعادة التاريخية/ الاقتصادية/ الفلسفية، في هذا التوقيت بالذات؟ لكي يبلغ لافروف، ناطقاً بلسان سيّده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما تقول مؤشرات عديدة ـ هذه الخلاصات: خلال القرنين المنصرمين، كل محاولة لتوحيد أوروبا بدون روسيا انتهت إلى مأساة قاتمة»؛ ولهذا فإنّ «شراكة الحضارات» ضرورية، على غرار لقاء الرئيس الروسي بوتين والأمريكي باراك أوباما، أسوة بلقاء البطريرك الروسي كيريل مع البابا فرنسيس!


أفكار لافروف نُشرت قبل الانسحاب الروسي العسكري المفاجىء من سوريا، ولكن مع استمرار مغامرة موسكو في أوكرانيا، وبقاء الحصيلة هزيلة في الحالتين؛ الأمر الذي يفضي إلى سؤال مشروع أوّل: أهكذا تستأنف روسيا أمجادها القيصرية، وتستردّ مكانتها في العلاقات الدولية، وتسهم في «شراكة الحضارات»؟ من الواضح أن قلق الكرملين الأكبر لا يدور حول تاريخ روسيا وموقعها في التاريخ الإنساني، بل حول اقتصادها ونفطها في مواجهة عولمة طاحنة فعلية هيهات أن تشبه المعارك اللفظية خلال الحرب الباردة. وليس أقل وضوحاً أنّ الغرب، بما في ذلك أمريكا، لا يبدي اكتراثاً بمغامرات بوتين في هذا الصدد، بل على العكس يرى فيها انجرافاً إلى مستنقعات ورمال متحركة.


كذلك فإنّ لافروف ليس أفضل مَنْ يساجل حول العلاقة بين التاريخ والجيو ـ سياسة، وهو صاحب المقولة السطحية الضحلة، والجاهلة الفاضحة، التي أطلقها أواخر 2012: «فى حال انهار النظام القائم في سوريا، فسيغري هذا بعض بلدان المنطقة لإقامة نظام سنّي في البلد»؛ وهذا سوف «يؤثر على مصير المسيحيين والأكراد والعلويين والدروز، وهو الأمر الذى قد يمتد إلى لبنان والعراق»! وبمعزل عن حاجته إلى مَنْ يذكّره بأنّ الأكراد سنّة أيضاً، في غالبيتهم الساحقة؛ كان في وسع لافروف أن يقيس على فلسفة المصاهرات الروسية، لكي يدرك أنّ التطلع إلى الحرّية والمستقبل الأفضل ليس موضوع اختلاف بين أديان السوريين وطوائفهم، بل هو هدف الإجماع الأعرض، وعُرى المصاهرة فيه عريقة متينة لا تنفصم.

 

صبحي حديدي

أحد, 20/03/2016 - 10:43

          ​