شكلت العروبة كهوية حضارية جامعة أساساً فكرياً لاندماج قومي، أعلى شأن الأمة على امتداد قرون، وترعرعت الفكرة القومية التي استندت إلى لغة الضاد في ظل الإسلام الحضاري المُنفتح الذي اعتمد حروفها في كتابهِ المُنزل .
والقومية العربية كانت حاضناً للديانات السماوية المتنوعة، ونمت في ربوعها الأفكار والمقاربات المُتعددة، وكانت وعاءً حاضناً للمجموعات العرقية المتنوعة، التي اضطهدتها الحضارات الأُخرى، لاسيما المجموعات الكردية والأمازيغية والأرمنية، وحتى القبطية في مفهومها القديم .حاربت النزعة الطورانية التركية الفكرة العربية على امتداد مئات السنين، ولكنها لم تتمكن من إخفاءِ معالمها التي ترسخت أكثر فأكثر بين شعوب الأقطار العربية التي لا تتطلع إلى العروبة كونها لغة فقط، بل تنظُر إليها كونها انتماء قومياً جامعاً له مكانته الرائدة في تاريخ البشرية، مثلما كان للعروبة فضلٌ على تقدم العلم، وخصوصاً الطب والفيزياء والرياضيات وعلم الفلك .والاستعمار الغربي الذي غزا البلاد العربية، جاهد لطمس المعالم العربية، لاسيما في اللغة والعمارة والتقاليد، ولكنه لم يتمكن من ذلك، بل استطاعت الشعوب العربية التي رزحت تحت الاستعمار لفترة طويلة من الزمن، أن تنهض من جديد، وتتحرر من الوصاية، وتعود إلى استخدام لغة الأمة، ولنا في ثورة الجزائر ضد المُستعمر الفرنسي خير دليل .
فقبل انتصار الثورة عام ،1962 كانت الجزائر محرومة من المدارس العربية، وكانت الفرنسية هي اللغة الرسمية التي فرضها الاستعمار في البلاد .وتمتد معاناة العروبة من المحاربات الخارجية إلى يومنا هذا . فلُغتها تتعثر في العديد من الدول العربية، وتكاد تُصبح لغة الطبقات الدُنيا من الناس، أما الاغنياء، أو الميسورون، فأصبحوا يفضلون استخدام الإنجليزية والفرنسية في حديثهم، وفي أعمالهم .وعانت العروبة وتعاني الاضطراب العقائدي المُخيف الذي تشهده بعض الساحات العربية، لاسيما في الالتباس الحاصل عند بعض الجهات الإسلامية المُتطرفة، أو حتى عند حركة الإخوان، بحيث تكاد الفكرة العربية تلفُظ أنفاسها عندهم، مقابل تشدد ديني لا يُبرره الإسلام . . دين المساواة والتسامح والسلام .وقد تعرضت العروبة أيضاً وأيضاً إلى كبوة موجعة على أيدي بعض الأحزاب المُتشددة قومياً، بحيث تم استخدام هذه العروبة الراقية لأغراض شخصية، وعائلية، هدفت إلى الحفاظ على الحكم في صيغته الاستبدادية بدل أن يساهم هؤلاء في إعلاء شأن العروبة وتطوير سماتها الحضارية العريقة . وتتعرض العروبة للخطر الداهم في معاقل هؤلاء، أكثر ما تتعرض عند غيرهم في الساحات العربية الأُخرى .
مهما يكن من أمر، تبقى العروبة الإطار الجامع للتنوع الموجود في البلدان العربية، وعلى أكتافها الصلبة تُبنى مداميك التضامن، وفي ثناياها تعيشُ مقاربات الوحدة الموعودة .أما الوحدة فيمكن لها أن تكون على أكثر من صورة:قد تكون الوحدة تطويراً لدور الجامعة العربية المُتهالكة، وقد تكون صيغة متقدمة وفعالة لتعاون أمني وعسكري واقتصادي، وقد تكون وحدة لها أُسسها الدستورية - كما هي الحال في تجربة الاتحاد الأوروبي - وقد تكون دولة عربية واحدة إذا ما حدثت معجزات نهضوية، وفقاً لما يتطلع إليه العديد من المُثقفين العرب .لقد مزق غياب الدور العربي جسد الأمة، وتكاد جروح الفتن والاقتتال تطال معظم مكوناتها، وضياع الدور العربي الجامع فتح شهية القوى الدولية والإقليمية على التطاول على خصوصيات الأمة، ويكاد هذا التطاول يوزعها مناطق نفوذ بين هذه وتلك من القوى النافذة .
والضياع العربي أيضاً وأيضاً أنعش المشاعر العدوانية ل"إسرائيل" وهي تتمادى أكثر فأكثر في قضم الأراضي في فلسطين، وممارسة أبشع أعمال القمع والاعتقال بحق الشعب الفلسطيني، وهي لا تنفك تحاول استجرار الفتن إلى الدول العربية المجاورة، لاسيما إلى سوريا والعراق ولبنان .إن تمادي الحركات المتطرفة في نهش جسد الأُمة، شكل مادة دسمة على طبق الحالمين بالتقسيم والتفرقة، والتجزئة والانفصال .
كما أنه بالمقابل أثار مخاوف وجودية عند الأقليات المُتنوعة التي حضنتها العروبة على مدى قرونٍ وقرون .والاستبداد في إدارة شؤون الحُكم، خطرٌ لا يقل شأناً عن خطر التكفير، ذلك أنه يفتحُ الأبواب على مصراعيها أمام التدخلات الخارجية في شؤون الأمة . وهذه التدخلات غالباً ما تخفي نوايا توسعية، وأطماعاً بالتحكم وزياد النفوذ .اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تشكل العروبة بصيغتها الحضارية المنفتحة، وبصورتها العصرية المتقدمة، حلاً للمعضلات الجسام التي تعانيها بعض الدول العربية . فالتعصب لا ينتج إلا التعصب . والدم لا يستسقي إلا المآسي والمزيد من الدم .د . ناصر زيدان
المصدر: "الخليج"