جنحت التحليلات في الصحافة العربية، وبعض الصحافة التركية إلى البحث عن خيوط مؤامرة وارء الخلاف الذي انجلت عنه الأحداث الأخيرة في تركيا بين رئيس الحكومة أحمد داوود أوغلو والرئيس رجب طيب أردوغان، واعتمدت بعض التحليلات على تسريبات لم يعرف مصدرها عن مؤامرة كان يحيكها أوغلو وبعض الشخصيات في الحزب للتخلص سياسيا من أردوغان.
لا شيء يثبت المؤامرات أو ينفيها؛ فدواليب السياسة في العالم عامرة بملفات التنازع بين أصحاب المشاريع.
أميل عادة إلى النظر في الأسباب الظاهرة، لأنها بنظري أقرب إلى طبائع الأشياء. لقد عببرت الخلافات بين رؤيتي الرجلين عن نفسها في كل الملفات الحساسة في السياسة التركية تقريبا؛ فلم يخف أوغلو عدم رغبته في تحول النظام السياسي إلى نظام رئاسي، وعزا إليه ضمنا فشل الحزب في الحصول على أغلبية في الانتخابات، وهو أمر يعد الآن حجرزاوية في رؤية أردوغان لتركيا.
وبرزت إلى العلن التباينات بشأن رؤيتهما لمعالجة المسألة الكردية؛ فرأى أردوغان ألا مكان لحزب العمال في مستقبل تركيا، وصرح أوغلو بأن المصالحة مع الحزب ماضية إذا نزع سلاح مقاتليه، قبل أن يتراجع لصالح موقف أردوغان.
ولم يخف التباين في موقف الرجلين لعلاقات تركيا الدولية؛ فرئيس الحكومة المنصرف براغماتي يرى موقع تركيا من الأزمات ويخشى لهيبها. إنه يعيش على نظريته الدبلوماسية "صفر مشاكل" ويميل إلى قاعدة مسايرة الكبار لا منافحتهم، والتحرك وفق الهامش المتاح، لا صناعة طريق لاحب بالخطب صعب التعرجات. يفضل العبور الآمن، وركوب الأمواج لا مغالبتها.
أما الآخر فيتعامل بمنطق سلطان يحيي نهج الخلفاء، وينظر باستعلاء عثماني إلى نوادي المسيحية التي أذلها أجداده الفاتحون، يمزج براغماتيته بتحد عالي الصوت، ويرى إنجازه الخدمي، والاقتصادي، كافيا لرفعه إلى حيث يريد، على عرش الخلافة، لا مجرد تأشيرة إلى دخول نادي الكبار من الباب الخلفي.
لن يتغير كبير شيء في السياسة التركية فمن كان يحكم تركيا ما زال جالسا على العرش، إلا أن هامش تحرك الحكومة بعيدا عن القصر سيتضاءل، وستضيق بعض قنوات التفاهم مع القوى الغربية، وستمضي خطوات التقارب مع الاتحاد الأوروبي بوتيرة أبطأ.
سيمضي الرجلان لمصيرهما؛ يزداد خصوم أردوغان داخل مشروعه بصامت جديد، وتعلو نبرة الخليفة الزعيم في ملفات المنطقة، دون أن يتغير كبير شيء في تريكا؛ فما زال أردوغان حاكما شبه مطلق.