عندما ولدت تحت شجرة خضراء من "گرون لمحادة" بعد صلاة الظهر في يوم ليس بالمثير،تركت للحالة المدنية مهمة تحديد تاريخه بشكل عشوائي،يومها قمت رسميا بتسجيل الدخول إلى صفحتي على هذه الحياة،في هذا الوطن المقرصن كما يبدو.
ظننت وأنا أنمو ببطء،أن حينا الصغير هو محور الكون،وأن نواكشوط به كثبان هائلة من القطع النقدية،بحيث أن كل من ذهب اليه سيعود بالكثير من الهدايا،وأن رئيس البلاد معاوية يسكن في السماء،لأن الرئيس كما يقال فوق الجميع..
كنت أظن الشمس تنام كل ليلة في البحر،وأن جدتي تعرف مكان الجنة بالضبط،وأن إمام مسجد الحي ذو اللحية البيضاء الكثة من الملائكة،وأن قبيلتنا لا تقهر مثل محاربي "الساموراي"،قبل أن أكتشف بعد ذلك أنني كنت تحت تأثير جرعة زائدة من "فاقو" ،كان كل شيء أمامي يبدو لامعا مثل ذلك السراب الذي كنا نطارده صيفا ونحن صغار على طريق الأمل،كانت لعيون ساعتها مدينة حجرية بامتياز لم تستسلم بعد للأسمنت ونوافذ الألمنيوم،وكان شبان الأحياء الحالمين يتبارون مساءا على الرقص على موسيقي الروك والجاز،المنبعثة من مسجلات SHARP التي كانت ركنا أساسيا من المهر وقتها..
كانت الجبال المحيطة بنا ثابتة وتشبه الأصنام،لكن لا أحد كان يعبدها ويقدم لها القرابين باستثنائي،فقد ظننت أن الله يوجد خلفها وأنا صغير،أعيد وأكرر وأنا صغير حتى لا يكفرني أحد القوم.
لقد قرأت صحيح البخاري ومسلم والثابت والمتحول لأدونيس وأشعار جبران خليل جبران والمتنبي وعروة بن الورد وقرأت أيضا الدستور الموريتاني،قرأت كل ما وجدت،رغم أن ما وجدت قليل.حتى كتب تفسير الأحلام وكيف تتعلم الفرنسية في خمسة أيام دون معلم-والتي خرجنا من مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي دون أن نتعلمها-قرأتها،لكنني بعد ذلك نسيت كل شيئ،وتفرغت لمتابعة السينما الهندية حيث المطر والعنف بمتزجان في دوامة من الرقص والدموع لا تنتهي الا بالعناق..
تابعت أيضا برنامج من سيربح المليون ومنبر الجزيرة وما يطلبه المشاهدون وصباح الخير يا وطن،وكنت أبحث عن الربح مثل الجميع،فمارست التجارة حيث كنت أبيع البسكويت والحلويات لأفراد العائلة،لكنني اعلنت بعدها إفلاسي بسرعة،فزبنائي لم يكونوا يسددون ديونهم!
كنا نمضي في الطريق دون بوصلة،فلم تكن الوجهة هي هدفنا،كنا نستمتع بالسير وحسب،كنا نرقص مع الفرح لأننا ندرك أن صوته غدا قد يصبح خافتا،هذا ما قرأناه على قسمات الذين جابو طرقات الحياة قبلنا،حيث كانت عيونهم تفيض بالحنين،لكن الزمن لا يعود أدراجه..
يقول المثل((ألي ماه فكرشك لا تعمل عليه))،وتقول الأيام((أجمل لي بركلك الدهر اركبو))،ربما هي أمثلة تشجع على الخنوع ومهادنة الواقع،لكنها قد تكون نوعا ما واقعية تماما،فمثالية الأفكار قد تقيد حركتنا،فنحن لسنا في المدينة الفاضلة،نحن في الجمهورية الإسلامية الموريتانية(ولكلام ما ينكال كامل)،لقد كنت طيبا جدا!
ذلك ما اكتشفته مؤخرا بعد رحلة طويلة رفقة المثالية والطيبة،لا أدعو لممارسة الشر إطلاقا،لكنني من جهة أخرى أحذر من الوقوع في فخ الأفكار الرومانسية من قبيل الوثوق بكل ما يطفو على سطح المعاملات من قيم مصطنعة،هي في الحقيقة طعم وضع للطيبين..
هنا شنگيطي،وهذه الرياح تكاد تحمل أجسادنا كطائرات ورقية لتزرعها في تلك الرمال المتعبة من الترحال في هذه الصحراء الشاسعة،اليوم تأملت النخلة وأنا أقطف بعضا من ثمارها الدانية،فأحسست أن دمائي قد صنعت من التمر،فأسلافنا لم يقاوموا هذه الصحراء القاحلة إلا بالأسودين التمر والماء
الساعة 01:25 صباحا،دمتم بخير