كان فأرا مشاكسا وخفيف الظل،دعوته إلى حوار شامل هذا الصباح حتى التقط معه صورة تذكارية أباهي بها المصورين في "ناشيونال جيوغرافي"،ولكي أحضّه على الكف عن المرور من فوق جسدي المترهل عندما أكون نائما أحلم بالجمهورية الثالثة ذات الحدائق المعلقة والجسور المائلة كقوس قزح،لكنه كان فطِنا وقد خاطبني قائلا:
أنا لا أثق فيك أيها الكائن الضّخم،أنتم البشر في غاية المكر والأنانية،فعلا أنا فأر نشط وأتمتع بكامل لياقتي البدنية،وعندما تحرك أنت طرف عينك فإنني أشعر بذلك،لكن ذلك لن يجعلني أجازف بحياتي وأقترب منك.لقد علمتني التجارب أن لا أثق بسرعة بمن خدعوني ذات يوم.لكن لماذا تحاول طردي،رغم أنني مرح ومسالم،لقد تبتُ من قضم تلك الأوراق التي تسمونها الشهادات الجامعية،والتي وجدتها مكدسة في معظم البيوت التي زرتها في بلادكم العاطِلة عن النمو،بلادكم التي وجدتُ أن فقرائها أكثر رحمة من مترفيها،ففي بيوت الفقراء يسهل علي إحداث ثقب في الجدران لكي أتخذه مسكناً،بينما جدران منازل الأغنياء فهي مغلفة بالرخام ويرتكبون فيها دائما المذابح الفظيعة بحق سلالة الفئران المُحبة لوطنها،والدليل على وطنيتها،أنها لم تشارك في تلك الولائم المغرية التي أقيمت على شرف المشاركين في حوار المرايا.كم تعلم أنا فأر عفيف ولن ألطخ معدتي الصغيرة بفتات الدنيا المشبوه،سأخبرك بقصة محزنة،ذات ليلة باردة كنت أتسكع في أزقة العاصمة في رحلة مضنية عن بعض حبال الماكرونا الطرية أو بعض حبات الكسكس المتساقطة كأوراق الخريف على أطراف الموائد،وأنا أمشي بسرعة صادفني صديقي وهو فأر وقور ومحترم وقد كان الأسى باديا في عينيه،فسألته ما خطبك؟
أجابني وهو يجفف دموعه بمنديل أبيض،لقد كنت في أحد الأكواخ النائية ورأيت مشهداَ مؤلما،أم وأطفالها الأربعة يصنعون حلقة حول صحن معدني صغير،حيث كنت أسمع بوضوح اشتباك أصابعهم بأرضية الصحن،فسُمك الطعام كان خفيفا،عندها استحييت من مراقبتهم من وراء السيّاج منتظرا بقايا طعامهم.فذهبت وأنا أفكر في تلك الليالي الجميلة التي قضيتها في مفوضية الأمن الغذائي،حيث كنت أسرح وأمرح بين أكياس القمح المكدسة فوق بعضها البعض،أنا على يقين أن عشاء تلك الأسرة قد رمي ضعفه في مكان ما من العاصمة قرب القمامة.نعم،قلتها لصديقي الفأر الوقور إنها بلاد المتناقضات العجيبة،حيث باطن الأرض يعج بالثروات وظاهرها يكتظ بالأنين،بكل صراحة لم يعد باستطاعتي تحمل المزيد من السكوت،لقد بت أفكر بشكل جدّي في تأسيس حزب للفئران التي تعاني التهميش،وإن لم نحظى بترخيص ومقر سنقوم بقضم أوراق الدستور وأبواب البرلمان ونوافذ البنك المركزي وستائر القصر الرمادي وربما ننزل إلى الشوارع،وإن حاولت الشرطة قمعَ حراكنا المشروع سنلجأ حتما للعنف كما فعلنا مع الفيلة ذات مباراة ودية شهيرة جمعت بيننا...
قال لي ذلك الفأر المشاكس،لا تغتر بحجمك الكبير أمام خصمك إذا كان صغيرا،ولا تحسبن الصمت سلاماً دائماً،فالسرطان مرض صامت،لكنك قد لا تشعر به إلا بعد أن تكتشف أن جسدك أصبح باليا،لذلك الكشف المبكر عن المظالم يجعلنا نتدارك بقايا السلام في أرضنا قبل فوات الأوان.طبعا أنا لم أخرج من جحري هذا الصباح لكي أقدم لك المواعظ أيها الإنسان الضخم،هيا ناولني قطعة الخبز،لقد تركت حبيبتي في الجحر مع صغارها فأنا أعيل أسرة والحمد لله،لستُ مثلك أنتَ!..إنني أراك غارقا في الأسئلة المعقدة،بل إنني أرى نار الرغبات بدأت تخمد في نظراتك التي صارت تنقبض كدوائر الماء في نهر قُذف بحجر صغير جدا.ستمضي الأيام وتنمحي آثار خطواتك على رمال الحياة وأنت لا تزال تلهث وراء السراب،وأي سراب...سراب المُثل المكتملة.
كُن فأرا مشاكسا مثلي،قُم بقضم أفكارك القديمة ولتزح كل الأشياء الثقيلة من قلبك حتى تُصبح رشيقا وخفيف الحركة مثلي..
لقد كذبت عليك عندما أخبرتك أنني فأر عفيف وذو مبادئ،السبب الذي جعلني أحجم عن الذهاب إلى قصر المؤتمرات للمشاركة في تلك الولائم هو كثرة القطط السمان هناك،وأنت تعرف عدائنا الأزلي مع القطط.بالنسبة لذلك الفأر الوقور الذي حدثتك عنه مجرد لص كبير،إنه يتظاهر بالورع ويختلق القصص المؤثرة-رغم أنها حقيقية-حتى يستولي على قلوب الفئران الطيبة،إنه يدعوهم للفضيلة حتى لا ينافسوه على الخطيئة التي يمارسها تحت جنح الظلام في مخازن القمح،إنه يأكل نصيب الفئران المستضعفة من القمح..
عليك أن تمارس السياسة،فالفئران المسيسة أصبحت تعيش في بحبوحة من الحياة ونالت رضا القطط السمان،بينما الفئران التي تناضل في صمت فإنها تعيش في جحورها القصية،في النهاية ربما أكون قد أغويتك وجعلت خيالك يشرد بعيداً،حتى أتمكن من سرقة بعض خبزك،لقد خدعتك أيها الكائن الضخم،لقد جعلتك تشعر أنك فأر مثلي فأوقعتك في فخ حوار المرايا،لقد كنت تتحدث مع نفسك فقط.....
الصورة المرفقة التقطتها بصعوبة من الفأر وهو يحاول قضم الخبز،كانت مجرد لقطة،لكنني صنعت منها قصة ثلاثية الأبعاد-تأملوها-تلك الأشياء الصغيرة يمكن أن نصنع منها أشياء كبيرة المعنى،لقد سُعدت كثيرا بمشاركة هذا الفأر المشاكس الفطور،لقد فتحَ ذهني على بعض الأشياء المهمة..على سبيل المثال،نبهني على عدم الاستهتار بتلك الأشياء الصغيرة التي توجد في حياتنا،والتي لا نشعر بقيمتها إلا بعد فوات الأوان،ففتات ذلك الخبز جعل من ذلك الفأر فأرا سعيداً،ربما يساعدني هذا الفأر في دخول الجنَّة،لم لا وفي كل كبد رطبة أجر..
هنا مكان ما،فكُل الأماكن صارت متشابهة مثل السماء،وهذا ما سمح به "استحفي"،أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
تنبيه:أي تشابه بين أبطال التدوينة وأشخاص حقيقين لا أتحمل تبعاته،فذلك قد حدث ربما بمحض الصذفة.....الساعة 10:46 صباحا في حفظ الله
خالد الفاضل