ليلة البارحة،وأنا منهمك في تمارين cinématique وهو علم يهتم بدراسة الحركة دون الغوص في مسببات تلك الحركة،أرسل لي صديقي رسالة قصيرة،وصديقي هذا شاب قمحي اللون يكره التوابل بشدة-عكسي-ومع ذلك فهو مصاب بالقرحة المعدية(المجبنة)،ولد صديقي هذا تحت شجرة من "تيشط" بين الكثبان الرملية،ومع ذلك كتب في أوراقه أنه ولد في "تفرغ زينه"،بعد أن شطب أربع سنوات من عمره،فصرت أكبر منه،رغم أنه ولد في الصيف وأنا ولدت في الشتاء الذي يليه..
اكتسب صديقي معظم ثقافته من مجمع المدارس وقمر عربسات،ومؤخرا أضاف لهما اليوتيوب وموقع موريتانيا الآن.كانت رسالة صديقي تحتوي هذا السؤال:
ماهي وجهتك في هذه الحياة؟
فاجئني السؤال حقا،فما كان مني إلا أن نظرت لجدران الطين من حولي،وقمت بتكوير كل أوراق الفيزياء حول نفسها حتى أصبحت بحجم كرة التنس،ورميت بها جهة النافذة المفتوحة،ووضعت رأسي فوق وسادتي التي امتلأت بالأحلام لطول مكوثها تحت رأسي الشبيه بقارة إفريقيا،فكلاهما يعج بالثروات والمشاكل...
أجبته قائلا:لا وجهة محددة لي فيها،أظنني شبعت منها قبل أن أتذوق معظم صنوفها المعروضة فوق الرفوف..
فرد علي:هذا يعني أنك تنتظر المنية!
عندما سمعت اسم المنية تذكرت الحياة،وشعرت برغبة عارمة لخلق ضجيج في جسدي يحطم أصنام الصمت فيه ويعيد الألوان لجدران روحي الباهتة،فقررت أن أشعل فتيل الموسيقى في قائمة هاتفي الغبي،كانت السيدة المحترمة اليسا تغني أواخر الشتاء،بينما كنت أنا أبحث عن بداية الشتاء في هذا الوطن الذي يبدو أنه قد أصيب بالقرحة المعدية مثل معظم سكانه.لكن السيدة الفاضلة اليسا بدل أن تحرك قدمي اليمنى وتجعلني أترنم معها مثل أجيال الأندرويد وضحايا الحب الرقمي،ممن تتغذى قلوبهم على Wi-Fi والشاحن،فوجئت بصوتها الدافئ المحمل برائحة شجرة الأرز ومقاهي بيروت ودموع الشام وهو يسحبني إلى فسحة من التأمل لم تأخذني إليها مواعظ الواتساب،من قبيل لا تتركها تتوقف عندك! مررها بسرعة،كأنها كرة سلة تتقاذها الأيادي بخفة.لقد صارت المواعظ في زمننا لا روح فيها،فما بين موعظة مفخخة بالقلق السلبي تحول حياتك إلى مأتم،فتزهد في كل شيء حتى في المطالبة بحقك،وما بين أخرى مائعة تجعلك تظن أن النسخ واللصق كفيل بمحو جميع زلاتك بحق عباد الله وبحق نفسك،وأن دخول الجنة صار يقتصر على حجم البيانات الدينية في هاتفك،وأن الدين أصبح شيخا وقورا علينا أن نبعده عن شوارعنا،ونكتفي منه بأخذ البركات وشحن العواطف وتقديسه من بعيد..
لقد جعلتني "الفاجرة" اليسا خوري أدخل في حالة تأمل خرجت فيها عن جسدي لأطرح هذا السؤال،من أنا؟
أنا مجرد كتلة حجمية تشغل حيزا ضئيلا في هذا الفضاء الفسيح،أنا مجرد عمر يكاد يشبه الوميض الخافت وهو يعبر هذا الزمن الهائل الممتد منذ الأزل وحتى الخلود.
يوما ما،سيذوب جسدي في التراب مثل قطرات المطر الخفيفة،ستتحلل كل أصابعي التي لطالما داعبت بها لوحة المفاتيح،سيمر الماعز من فوق قبري ليأكل ذلك العشب الشاحب الذي نبت فوقه خريفا،ستدنو الأنواء والرعود في تلك الليالي المظلمة من مرقدي دون أن توقظني فزعا،كما كانت تفعل وأنا صغير أحبو.معظم آثار خطواتي فوق رمال الحياة ستتلاشى،كأنني كنت أمشي طيلة عمري فوق الماء...
من سيفتح رسائل الخير التي لم أنهي كتابتها،ليكملها؟
من سيرى وجهي في عيون المتسولين،ويخبرهم أنني كنت مثلهم أحب الشكولاته،ويهديهم بعضا منها؟
من سيمسح دموع صديقي الجبل،الذي كانت قمته هي عرشي المطرز بالحكمة،حيث جعلني أبصر مبكرا عظمة الخالق وقوة الحب في الله..
يا ترى كم تعداد البشر الأحياء الآن الذين سيذهبون إلى ذلك العالم قبلي،وماهو ترتيبي؟
لا أحد يعلم شيئا عن ذلك سوى الله،ترى من هو التاجر الذي سيبيع لهم قطعة القماش التي ستلفني،هل بدأ في ممارسة التجارة أم أنه لم يولد بعد،ماهي طبيعة تلك المياه التي سيغسلون بها جسدي،هل دخلت الخزان أما أنها لا تزال في جوف الأرض،يا ترى كيف ستكون ملامح الذين سيتبعون جنازتي،ومن هو ذلك المشيع الذي سوف يرن هاتفه سهوا أثناء الصلاة..
من هو ذلك العابر الذي سيمر قريبا من مكان جنازتي بالصدفة،لينضم إلى المشيعين ويصلي معهم ويطلب لي الرحمة بصدق دون أن يعرف اسمي وجنسيتي،أحب ذلك العابر.كما أنني أحب كل العابرين الذين يقدمون الخير كلما وجدوا إليه سبيلا ودون أن ينتظروا الإطراء.
ذلك العابر وصل إلى الله،لقد عرف ما يريده الله،أحب أن أكون مثله تماما،أتوق بشغف كبير للوصول لمرحلة الإحسان التي وصل إليها،إنه لا يرى الله،لكنه يدرك بكل صدق أن الله يراه في كل مكان..
اللهم أرزقنا الشتاء ولا تجعلنا من الغانطين،اللهم إننا نستودعك سفارتنا في واشنطن وأموالنا في كل بنوك العالم،اللهم نقي قلوبنا من النفاق والرياء وجوارحنا من دماء الناس وأعراضهم وبطوننا من المال الحرام،اللهم زحزحنا عن النار وأجعلنا من الفائزين..
هنا تامشكط،والليل قد أرخى سدوله على البيوت،ونحن نستلقي تحت الهواء الطلق ودون أن نشعر بالبرد،رغم أنه ديسمبر،أحب أن أشاهد لكلاسيكو غدا،لكن ذلك لا يبدو متاحا!
الصورة المرفقة منقولة وقد تخدم النص.وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...الساعة منتصف الليل 40 دقيقة
خالد الفاظل