كلمة في ذكرى المرحوم الداه ولد ابات .

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء والمرسلين أفصح من نطق بالضاد المؤتى جوامع الكلم، القائل: "الناس معادن"، فمنهم من هو كالأرض الطيبة تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير، ومنهم من هو كالقيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. وقد ورد عن السلف: "إن الله تعالى بكرمه الذاتي، يستحي أن ينزع البركة من محل جعلها فيه".

وبعد فعندما طلب مني الإخوة المنظمون لهذه التظاهرة أن أكتب لهم كلمة عن الوسط العائلي للفقيد الداه ولد ابات لم تزل وطفاء الرحمة مُربة على قبره، وهو المعم المخول في العلم والدين الذي يصدق فيه قول أهل التصوف "إن النسب لا تتبدل والحقائق لا تنقلب" وقول الشاعر: "وهل ينبت الخطيَ إلا وشيجُه"، رأيتهم قد نفخوا في غير ضرم إذ هم أولى بالكتابة والحمد لله مني وأقدر عليها لأنهم أفصح لسانا، وأحصف جنانا وأقوم بنانا وأدرى بالمكان الذي تؤتى منه كتف العلوم. ولكن نحن أمة والحمد لله يسعى بذمتهم أدناهم.
لذا ما تلكأت في الاستجابة لطلبهم خاصة أنني أحسست فيه بنوع من الإغراء في الوسط، فكتبت هذه الكلمة التي لا تفي يقينا بحق هؤلاء السادة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. وأردت لها أن تندرج في شامل الكِلمة التي قد يؤم بها الكلام الكثير.
وقبل البدء أشير إلى أن ما أورده من معلومات عن هؤلاء العلماء العارفين أجداد الفقيد لا أريد به الفائدة لأنه يكاد يكون من العلم الضروري، فسبقهم وتقدمهم أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولأن في ذكره لهذا الجمع الحضور تحصيلَ حاصل، كما أنني لا أريد منه لازمها لأن المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور، وإن كان جهل الأعيان مجرحة. وإنما مقصودي ينحصر في نشر بعض مطوي فضائل وفواضل أعلام هذه البلاد الذين لم يجدوا حقهم في كتب التراجم والمعلمات والحال أنهم وصلوا إلى درجات من التقدم في العلم والدين تنقطع في طلابها أنفاس الطالبين. كما أنه أيضا ذكر للصالحين تستنزل به الرحمات وترتفع البلايا، وتغفر الذنوب، وينجلي صدأ القلب ورينه، لأنهم القدوة والمثل، والنموذج المقتفى وقد كثر في القرآن الكريم قص أخبار الأنبياء الكرام وأخبار الصالحين من غيرهم.
فهو إذن من باب التعرض لنفحات أولئك الأعلام الذي دانت له رقاب الكبار راضية طائعة، والاستمطار لتلك الأنواء التي تدلى على المسنتين هيدبها فروّاهم وكانوا في ظمأ إليه شديد، والاستمداد من تلك البحور الزاخرة الذي فاضت ينابيع علومها فما غارت وقد قال الصادق المصدوق: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً.”
ولما صرفت الفكر مليا في الموضوع وجدت في القول متسعا، فقد تكاثرت الظباء على خداش. لأن الحديث عن وسط الداه الاجتماعي طويل الذيل لا يكاد الوصف يبلغ أدناه. إذ هو كلام عن أبرز أسر العلم والدين التي بلغت مُرتقى تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين، أسرٌ كان لها أثرها الكبير في تاريخ هذه البلاد بل في تاريخ بلاد الإسلام برمتها.
فقد أحيى أجداده على مر القرون الستة الماضية معالم الدين في هذا المنكب القصي من دار الإسلام، تجديدا لما دَرسَ منه، ونفيا لما حُرف وانتحل، وإيضاحا لما انبهم وأشكل وذلك على فترة من أهل الذكر وانقطاع من العلم وفتور من الهمم. فانتفع الناس بهم كثيرا في المعاش والمعاد، فكان ذلك من أسباب بقاء ذكرهم مدويا على وجه الدهر لأن العلة المتعدية مقدمة عند جماهير العلماء على العلة القاصرة.
والحديث عن الوسط العائلي للفقيد، يستلزم المرور بمحطات كثيرة ومهمة، يصعب حصرها عدّا وحدّا. غير أنه لما كان المقام مقام الاختصار والإجمال لا مقام التفصيل والبيان الذي يكون فيه الاقتصار مفيدا للحصر، فسأتعرض لست شخصيات جلة أعلام، وسألجم العنان عن الإفاضة في ذكر أخبارهم وتعداد شيمهم مما يستعصي على العادين، وإن كان في مثل هذا يخلع العِذار لأن الاستعذاب من أسباب الإطناب كما يقال. فأختطف القول فيهم بشكل أرجو ألا يكون مخلا وسأرتبهم بحسب ترتب وفياتهم في الزمان. وأتوقع أن السامع سيقول:
وحدثتني يا سعد عنهم فزدتني غراما فزدني من حديثك يا سعد
***
فبالنسبة لمَحَنض بابَه بن اعبَيدْ بن أحمد، وهو جد الفقيد لأبيه، فهو طود شامخ من أعلام هذه البلاد، وأحد أعيان العلماء المأموني الفهم والنقل المقتدى بهم فيما يَروون وفيما يَرون، انتهت إليه رئاسة العلم درسا وتدريسا وإفتاء وتأليفا وقضاء، واعتبره أغلب معاصريه من العلماء كمحمذن فال بن متالي، وهو حذامي المذهب وأبو دلفه، مجتهدَ ترجيح. بل جزم الفقيه ميلود بن المختار خي أنه جمع شروط مجتهد المذهب. ويكفيه أنه صحح عدة مسائل من مختصر خليل درج أهل العلم من مدرسين وشراح من عهد بهرام على قراءتها مصحفة وتقريرها على مقتضى ذلك التصحيف. وبيَّن مسائل عز فهمها وتفسيرها على معاصريه من فطاحلة العلم، ونبه على مسائل بدا فيها تعليل بما ينافي الاعتبار، وصوب نصوصا وشواهد طالها اللحن والفساد وذهب ببعضها التصحيف والتحريف كل مذهب، وتدارك الفقه وقد بدأ يضيع من الناس بشرحه الذي بذ غيره بشهادة أجلة العلماء كباب ولد أحمد بيبَ والشيخ محمد المامي، وأفاد أجيالا كثيرة.
لم يغتر يوما ما بزمن المهلة حتى صار برنامج يومه مضرب المثل بين الناس، فقد عُرف بجده واجتهاده في طلب العلم أيام التحصيل، وسعيه الحثيث في نشره حينما انتصب للتدريس، وتحريه الدقيق في الفتوى والحكم، وتنقيحه المتأمل للبحث استدلالا وردا وتعقبا ودفعا ورواية ودراية، وتنبهه اليَقظ إلى الأقوال البعيدة عن الصحة، العريقة في الوهم والغلط.
فكان العالمَ المُحق الذي أُريَ الحق حقا ورُزق اتباعه وأُريَ الباطل باطلا ورُزق اجتنابه. ولذا تلقى الناس فتاويه بالقبول وخضع لها العلماء ولاذوا بالتسليم. وما ذلك إلا لدورانه مع الحق حيثما دار مقتديا بقولةَ الإمام الشاطبي: "إن الهوى إذا كان إحدى مقدمتي الدليل فإنه لا ينتج إلا اتباع الهوى". وقد عبر محنض بابه عن ذلك بأبياته المشتهرة:
ليس من أخطأ الصواب بمخط إن يؤب لا ولا عليه ملامــــه
إنما المخطئ المسي من إذا ما وضح الحق لج يحمي كلامــه
حسنات الرجوع تذهب عنــه سيئات الخطا وتنفي الملامـه
وقد أسس محظرة كبيرة انتشر إشعاعها في كل المناطق. وظل يدرس بها قرابة 70 سنة حتى إنه ألحق الحفيدَ بجده. وأخذ عنه جم فيها غفير من الطلاب الذين صاروا بعد ذلك من أهل العلم المعروفين وقد بلغ عدد المحفوظ منهم ما يناهز المائة.
وكانت له نقاشات ومطارحات علمية بالغة الأهمية والفائدة حول مواضع في العقيدة والفقه والتصوف اتسم فيها بالعفة في اللسان، والحز في المفصل، وجموم المادة العلمية والدقة في التعبير، وتوقد ذهن لا يخبأ نوره، واتباع ضوابط المناظرة، وعدم الحَيَد عن الدليل. فكان يرد الخصم إلى سوي النظر ويحاججه دون أن يغله تعصب أو هوى ولا أن تجمح به عاطفة أو إغراق ولا أن يشط به رأي ولا أن يتهيب مهما كنت المسالك وعرة.
أما في الجانب الاجتماعي فكان محنض بابه يرى لنفسه ما للإمام الأعظم من تنفيذ الأحكام وأخذ الحق من مستحقيه. وكان ينتصر لحرمات الله يدور بين الرخصة والعزيمة شدةً في غير عنف ولينا في غير ضعف ولذا استقضاه أمير اترارزة مُحمَّد الحبيب بن أعمر الذي ربطته وإياه علاقات خاصة وكان يُكن له وافر الاحترام.
ولذا قال فيه الشاعر المجلي في الميدان الأمين بن اعبيد الغالي يرثيه:
من يظهر الحق إذا ما التوى واختلط الحابل بالنابل
فدونك الباطل ما شئته يا أيها المولع بالباطل
ولقد أورث محنض بابه سمات شخصيته العلمية والروحية لبنيه وتركها أولئك كلمة باقية في أعقابهم، وما زالت تطالعنا والحمد لله نماذج من ذلك عديدة.
***
أما الشيخ سيديَّ بن المختار بن الهَيبَ فقد توفي بعد محنض بابه بسبع سنين فهو أشهر من أن يذكر وأظهر من أن ينكر. فهو العالم المتمكن والصوفي المربي بالمقال وبالحال الذي إذا جلس ليعظ الناس ألبس النفوس من الخشية ثوبا جديدا، فهجرت لأجله المجالس وكاد ينغمر ذكر غيره من الكبراء.
وكانت له همة أمضى وأنفذ من الصارم الهندواني، فبعد طول الطلب للعلم والتربية للنفس، طوى من أجلهما ممدودَ البلاد وتجشم المفاوز والمجاوز، ومجاهل عز فيها الدليل وأنى لمثله أن يجد ضالته إلا بذلك الجهد، أسس حضرته المشهورة وكرس معارفه العلمية ونفوذه الاجتماعي والروحي المتسع لإصلاح مجتمعه في دينه ودنياه. فدرس العلوم المختلفة ولقن الأوراد والتوجهات، وأجلى صدأ القلوب الناجم عن مخالطة الأغيار، وربى المريدين وأجازهم، وسعى في لمِّ شعث الأمة وجمع شتاتها.
فكرس وقته لتدبير شأن المسلمين والاهتمام بأمورهم ومصالحهم. وكان له تأثيره القوي على الأمراء والوجهاء من أهل زمانه، حتى أرسى سلطة دانت لها الأقيال في عنفوان كمال تمكنهم، بالرغم مما كان لهم من العز والظهور والإباية عن الانقياد. كما بذل جهده من أجل جمع الأنظمة السياسية القائمة آنذاك على كلمة سواء، وتوحيد صفوفها أمام الخطر النصراني الوافد. وفي هذا الإطار عقد مؤتمر تندوجه الذي حضره أمراء كل من اترارزة ولبراكنة وآدرار لتنسيق الجهود أمام هذا العدو المتربص والمخالف في الدين.
ولقد انتشرت على يديه الطريقة القادرية شمالا وجنوبا فكثر مريدوه أوزاعا من أعراق شتى ومشاربَ متنوعة، وازداد زائروه ممن تداركتهم العناية الربانية، لما شاهدوه من لوائح البركة وبواهر الكرامات. إذ جسد في حضرته جوهر التصوف بكل أبعاده القائمة على خدمة الخلق وعبادة الخالق ونصرة الحق.
ولهذا قال فيه القائل:
إضافة الشيخ لغير سيديا في قبلة أظنها تعديا
وذي الإضافة اسمها لفظيه وتلك محضة ومعنوية
وكان ممن يحسن جوار نِعم الله، فكانت الأموال تتدفق عليه وهو الغرثان الصادي إلى إفراغها في أيدي المحاويج، فاجتمع عليه الجم الغفير وأحبوه وأطاعوا أمره بكل انصياع يدفعهم لذلك بالغ الإعجاب والطمع في النوال. ولا غرابة في ذلك، فأسباب المحبة وإن تكاثرت فإنما مدارها على أمرين: الحسن والإحسان. فإن النفوس مجبولة على حب الحسن كما أنها مجبولة على حب المحسن إليها.
فبفضل البعد الإصلاحي الذي أخذه الشيخ سيديا على عاتقه، وبفضل التربية العلمية والروحية التي أشاع بين الناس، وبفضل إعمار الأرض وإصلاح ذات البين اللذين صرف همته نحوهما، عرفت مناطق عديدة من هذه البلاد نوعا من الوئام الاجتماعي والسعة في النِعمة لم تشهده من قبل، فنفق سوق العلم وتمهدت أسباب العيش، وصينت الدماء، وقطع دابر الفتن والشرور.
وتكفي عبارة صاحب الوسيط في وصفه حين يقول: "وهو العلم الذي رفع على قطره واشتغل به أهل دهره. وماذا أقول في رجل اتفق على أنه لم يظهر مثله في تلك البلاد اشتغل في شبابه بالعلوم وبرع فيها... ولم تزل فضائله تبدو حتى أذعنت له الزوايا وحسان وصار مثل الملك بينهم فلا يعقب بحكمه وكان أهلا لذلك كرما وحلما وعلما ولم تزل الدنيا تنهال عليه ويفرقها بين الناس". انتهى كلام ابن الامين.
ولقد قفى ابنه الشيخ سيدي مُحمَّد (سيدنَ) أثره في كل مكرمة وفضل، فرمى بسهم في كل فن وأصاب، وسار هو الآخر سيرة كبار المشايخ المتألهين حتى لكأنه خلق لهم جديد، ونشأة مستأنفة. فكان لذلك خليفة والده بحق في إرث الرسالة وإرث النبوة. ولا غرو فهو أجدر بمنازلة كل خلق محمود، خاصة أن والده قد فكه من ثِقاف حَجر التربية يانعا، واقتبس منه سلوك القوم المتروضين وطريقة الأصفياء المتقين وهو صغير. فكان من الذين نهضوا بما حملوا، وأضافوا للتالد طارفا مشكورا.
وإذا كانت آثار الشيخ سيدي محمد قليلة فإن مآثره عكس ذلك. فقد امتاز ما خلف من كتابات بوهج علمي آسر وبرشح عرفاني يسري في القلوب. ولا غرابة في ذلك فهو العالم العالي الكعب والصوفي الذي أخمد سَورَة النفس فكان ذا ذوق وشوق، واصطلمه الحال ولم تستفزه اللمحات، وهو المربي الذي تكفي منه النظرة وتوصل منه الهمة.
كما أنه الشاعر الخبير بطرائق العرب في التعبير وأساليبهم في الكلام، فاكتسى شعره لأجل ذلك رُواء وطلاوة، وهو الغزير المادة المديد الباع في لغة أهل الشيح والقيصوم، فذلَّ له المعنى الشرود واللفظ المتمنع وراضهما حتى أتياه طائعين.
وكان ابناه على أثره قصصا، فمناقبهما تند عن الإحصاء وفضائلهما تستعصي على الاستقصاء. فهذا الشيخ سيديَ (بابَ) الذي بلغ في العلم مبلغا كلت دونه غلب الركاب، وجلس للإفادة وما إن طر شاربه، واعتلى ذروة المجد وهو في حدثان الشباب.
فهو البحر الذي لا ينزح قعره ولا يسبر غوره، الفقيه والمحدث والمؤرخ والأصولي الذي يُعد لرد الشبه عند ثورانها، ويتصدى للمناظرة ويقدم لحل الإشكال وإقامة الحجج وتحقيق المسائل.
لم يكن بالعالم المغفل ذي التحقيق القليل، وطرف التنقيح الكليل ، بل كان على اطلاع كبير بما يدور في العالم وما يرد على بلاد الإسلام من التحديات والعواصف التي عايش أحداثها وخبر جوانبها، فكان أعرف بأحوالهم مما يأتون وما يذرون، فجاءت لذلك تحقيقاته وبحوثه في رؤية للواقع تامة وبرَويَّة في تحقيق المناط حصيفة.
كما وقف في وجه الكثير من المبتدعات وصار شَجًى في حُلوق أصحابها وسعى في تنقية الدين من شوائب الوضع والتحريف حين اتسع الخرق على الراقع وكاد منار الحق يشتبه بالثلاث الأثافي والرسوم البلاقع. كما كان رجل الشأن العام الذي يدبر أمور الأمة ويسهر على تحقيق مصالحها المعتبرة في الشرع إذ هو أدرى بشرط المصلحة ومدى اقترانها بما يلغيها من أضرار راجحة على المنفعة المترقبة أو مساوية لها.
***
أما الشيخ أحمدُ بن اسليمان بن أحمد سالم الذي توفي بعد شيخه الشيخ سيديَ بحوالي ست عشرة سنة فقد بدت عليه أمارات السيادة والصلاح في وقت مبكر حتى توسم فيه عبد الودود بن عبد الله ما توسم فقال:
يا راكبا بلغـــن عني سليمانا وبلغن قومــــــــه أبناء ديمانا
أني لقيت فتى عند الميامن من ديمان تزهو بهد يمان أزمانــا
كيف لا وهو الذي لم تُر منه التفافة عن قصده، ومن الآفات كثرة الالتفات، ولا فتور في همته ولا خور في عزيمته حتى وصل أعلى الدرجات. وهو الذي جزم محمذن بن أحمد بن محمد العاقل أن عليه من شيخه القطب المربي لوائحٌ يُدانيه استلامها من قطب السماء.
كان طويل اليد في العلم راسخ القدم في الصلاح، عالما صوفيا مربيا وشاعرا متقدما من كبار الزهاد وأفراد العُباد والشيوخ الذين نشروا الأوراد القادرية والاختيارات المختارية في وسطه، وكان ذا قدم في التوكل معروف، جعله يحتل في النفوس مكانا قل من حله في وسطه الاجتماعي.
لازم الشيخ سيدي ملازمة الظل لصاحبه فنال منه ما نال. خاصة تلك الدفقة القوية من الروحانية وتلك الزيادة البالغة في وهج خطاب الحق المتجافية عن الكلام الروامز. وبعد ذلك أسس حضرة صوفية مورودة، أنبتت بذرته فيها علما وعملا، واستفاد منه تلامذته ومريدوه مقالا وحالا. وكيف لا واللقاء كما يقال لقاح، وعدوى الفضل تسري، ومن تحقق بحال لم يخل منها حاضروه.
وكان كما كان شيخه رجل إصلاح بين الناس، فقد اطلع هو أيضا بتلك المهمة ووفاها حق قدرها من الإخلاص والتفاني، وأعطت أكلها في الواقع. ومن علامات الإذن التيسير. وكان أيضا في الكرم صاحب اليد العليا، فتتابعت لذلك عليه العُفاة المرملون رفاقا كما قال محمذن بن سيدي أحمد وكما لهج به غيره من الشعراء.
وكان أبناؤه على سيرته ومذهبه حذو النعل بالنعل ولم يكن أبو مدينَ دونهم في الشأو فكان يقضى العجب من والده في العلم والتقوى، حريصا على اتباع كل ما يبعد عن خوارم المروءة ومسقطات العدالة، شاعرا ذائع الصيت محبا لرسول الله عليه وسلم كثير المديح له. ومن شعره الذي سار به من لا يسير مشمرا وغنى به من لا يغني مغردا قوله:
حل بالقلب حب طه فتاها
إن من ذاق حبه لم تصده
حب طه ينجي النفوس إذا ما
حب طه هو المجيب إذا ما
إنما الفخر كله حب طه
ذات حسن بحليها وحلاها
عن قريب داعي المنون دعاها
جاءها بعد دفنها سائلاها

وأخيرا فهذه نفاضة الجراب وهي صُبابة قليلة وغيض من فيض ولكنها جهد المقل الذي بطأ به السير وعاقته العوائق والعلائق، وهيهات أن يدرك مثله مقام مثل هؤلاء حتى يستطيع وصفه والحديث عنه أمام الناس. وآخر كلامنا أن الحمد لله رب العالمين ورحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته وبارك في أهله وبنيه ولا زالوا منارة هدى للسائرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

- يحي ولد البراء

سبت, 31/12/2016 - 11:04

          ​