أنعي لكم ذلك الكاتب الذي كان يعيش في دخيلتي، لقد مر أسبوع دون أن أجد له أثرا في قلبي، فكلما وضعت أصابعي على لوحة المفاتيح شعرت بالضيق، كأن حقلا مغناطيسيا من الملل صار يحيط بخيالي، ويجتذب له كل شوائب الخمول، شربت لترين من الإثارة، لكن الصمت ظل يغيريني بالصمت. فتشت عن ذلك الكاتب في عيون الناس من حولي ولم أجده، تعقبت صوته الخافت وهو يمشي فوق تلك الرمال الباردة، لكن صوته سرعان ما ذاب في أهازيج الرياح العابرة، ركضت خلفه بكل لهفة عندما رأيت طيفه يلمع في ابتسامة فتاة ريفية قصيرة كانت تشعل النار بعيد الغروب تحت أغصان شجرة من السيال والقمر يتسلق السماء مكتملا، لكنه سرعان ما فر مني جهة المقبرة وتمدد بين أحجارها، وقال لي : دعني أنام هنا نومة "سرمدية"، لقد تعبت من البوح..
لقد كذبوا عليك حين أخبروك بأن خيالك أصبح مشعا مثل اليورانيوم، فأنهمكت في تخصيبه بحثا عن تلك الطاقة الكامنة في روح الكلمات، لتضيئ بها مصابيح ذاتك!
أراك عدت للعق جدارن روحك، كأنك تفتش عن طعم السكينة المفقود، فلا شيء تساقط من كلماتك التي كنت تجرها منذ أعوام سوى غبار الأمنيات والشكوى.
التفت نحوي بوجهك الأثري وأجبني: هل نضجت تلك السنابل التي غرست بذورها على رؤوس أصابعك؟
لقد كنت وحيدا وسعيدا، وتمر كما يمر الظل في الأيام الباردة، حيث لا يشعر بتمددك وتقلصك أي أحد، بيد أنك اليوم صنعت لنفسك فقاعة من الأوهام الزرقاء، جعلت كاتبا غبيا اسمه Khaled Elvadhel ينمو بداخلها ويتكاثر كنباتات الفطر، أعتقد أنك وقعت في فخ الأنا الذي زينه الشيطان لك، فصرت تكتب بشكل عشوائي ودون تدبر وورع فكري "مبطن"، لقد سطعت الشمس على أسرارك الأفقية، حتى التلاميذ وصلتهم قصصك مع وزارة التعليم، ومغامراتك العاطفية المتوازية مع الخيبة والبراءة، وكذا صداقاتك المتينة مع البصل وزيت القلي داخل المطبخ وعشقك القسري "للمحمصة"..
أما بعض الطيبين ممن يسهل خداعهم، فباتوا يرون فيك مثقفا "مثاليا" سامحهم الله وسامحك، فصاروا يطلبون منك التعليق على كل شاردة وواردة يتردد صداها بين جدران الوطن العازلة لصوت الحق، ذلك الوطن الذي لم تصدق فيه يوما سوى كلام الأطفال والمجانين وأحاديث الأمعاء وقصائد الرثاء التي قيلت في الذين رحلوا دون أن يتركوا شيئا من متاع الدنيا خلفهم.
صدقوني..أنا لا أتابع ما يجري في الوطن!
إنني منهمك هذه الأيام في مكافحة "أحراش لكرعين" وذلك بعد أن داهمني الشتاء على حين غرة، لا أستطيع أن أخبركم عن مدى القشعريرة والصدمة التي شعرت بها عندما نظرت إلى أقدامي بالعين المجردة، لقد كان منظرها شبيها بصورة ملتقطة من سطح المريخ، المليئ بالتشققات والتضاريس الغامضة..
لا أصدق ما حصل معك يا خالد!
لقد خدعتني، لقد كنت تخبرني دائما أننا مطلع 20177 سنكون وراء تلسكوب عملاق نراقب غبار النجوم، لربما نكتشف كوكبا جديدا نسميه "دار البركة"، لكنني اليوم أجدك تبحث عن حجارة خشنة ربما انفصلت عن نيزك قديم لتفرك بها باطن قدمك، فلا يعقل أن تكون مثقفا وقدوة وأقدامك بهذه الخشونة المروعة، فقد تؤذي بهما تلك الصغيرة، تلك الصغيرة التي نصحتها بصدق أن لا تتورط معك، فهي قصيرة ورقيقة وحساسة ونشطة دائما مثل خلية النحل، وأنت أستاذ طويل ونحيف وبارد وضعيف الإرسال مثل عمود "موريتل موبيل"، لكنها مصممة كما يبدو على أن تنجب منك كتيبة من الأطفال المصابين بالتوحد، كان الله في عونها، المهم في النهاية أن لا تعتبرك وطنيا، وأن لا تنظر إليك بالعين المجردة.
شرح المفردات:
شجرة السيال: الطلح
سرمدية: متواصلة لا انقطاع فيها
اليورانيوم: اسألوا عنه محمد البرادعي
غبار الأمنيات: الأمل أو بعبارة أدق موريتانيا
نباتات الفطر: شم أهل لخل
المحمصة: ماكرونا مدورة ولزجة وسريعة السقوط
متاع الدنيا: اسألوا عنه البنك المركزي
أحراش الكرعين: تشققات القدم وشرحتها عمدا للذين لا يعرفون الحسانية ومنهم الأخ اليمني الذي يعيد أحيانا نشر "هذياني" دون ذكر المصدر جزاه الله خيرا، ومثله كذلك بعض سكان جزيرة الواتساب، الذين يقومون دائما بتشويه سمعة بنات فكري "العفيفات" بعرضهن من غير ولي أمرهن، لكنه "النسخ" واللصق على كل حال.
القشعريرة: تشعرين الجل
دار البركة: اسألوا عنها زبناء بقالة المسافر
الصغيرة: تلك التي لا تعرف نفسها جيدا
موريتل موبيل:شركة اتصالات تخدم جيوبها من أجل أن "تسعد" مشتركيها في كل أنحاء الوطن
هنا تامشكط، وللذين وصلوا إلى هنا بشق الأنفس، لا أظنني سأعتذر لكم عن طول المنشور طبعا، فقد تعبت من المجاملات، كما يسرني هنا أن أخبر إدارة المصادر البشرية في وزارة التعليم أنني بت أشعر الملل، وهو شيء قد يقودني للإنحراف بعد ثلاث سنوات من الورع.
كتب هذا المنشور بالعرض البطيء، وهو برعاية الوضع المجاني والأرز الموريتاني المقشر...
الساعة منتصف الليل و 200 دقيقة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.