يقال لكي تعرف قيمة أي شيء، عليك أن تتخيل غيابه. هذا ينطبق على الصحافة التي سيمثل غيابها ليوم واحد، انقطاع الأخبار والبرامج والعواجل والتحليلات والتقارير التي تجعلنا على معرفة واطلاع دائمين بما يحدث حولنا.
إنه أشبه بانطفاء أضواء الكوكب. كم هو خيال موحش! ولكن بعيداً عن هذه الفكرة التقليدية والمتخيلة، فإن الصحافة ربما تكون المهنة الأكثر خطورة وممارسوها الناس الأكثر شجاعة.
الصحافيون هم الوحيدون الذين يقدمون أعمالهم على العلن ليحكم عليها الملايين. غالبية الأعمال الأخرى تطبخ على نار هادئة وداخل غرف مغلقة ولا يعرف عنها الناس شيئاً. الموظف الجالس على كاونتر خطوط الطيران يضرب على جهاز أمامه ولا نعرف عملياً ماذا يفعل إلا بعد أن يمد إلينا "البوردنغ". ربما يكون أتعس أو أفضل موظف. هذا شيء لا نعرفه لأن عمله لا يظهر للعلن، وتقييمه يتم في الغرف الخلفية على يد مرؤوسيه. لا نعرف أن الطبيب أخرق إلا إذا نسي مقصاً في بطن المريض، ولا نعرف أن موظف البنك مختلس إلا إن قبض عليه بالجرم المشهود. العاملون في العلاقات العامة لا يملون من الوقوف أمام "البرزنتيشنات" والاستعراض بنبرات أصواتهم وحركات أيديهم لإقناع العملاء المحتملين. لكن كل هذه الصفقات تحدث في السر وفي الغرف المكيفة وأمام أفراد معدودين. لا يقف أحد منهم على مسرح ويقدم مهاراته للملايين ويضع مستقبله بين أيديهم.
الصحافيون بسبب طبيعة عملهم العلنية يظهرون كل ما يقدمونه للجمهور للحكم عليه. عملياً، الصحافي مديره ليس رئيس التحرير، بل آلاف المتابعين الذين يضعونه على محك الاختبار. رئيس التحرير سيعجب بالصحافي الماهر لأن الناس أحبوه وليس العكس. مهمة شاقة أن تُدفع من ظهرك كل يوم كمذيع أو كاتب أو محاور على الهواء أو على صدر الصفحات لتقول للعالم كله: ها أنا ذا قيّموني! الأصعب من كل ذلك أن مزاج الجماهير متقلب وعاصف كمزاج الأطفال المدللين! يحبونك يوماً ويكرهونك أسبوعاً حتى لو حافظت على ذات الجودة في العمل. من المحزن أن ترى أمهر الصحافيين يخرجون من دائرة الضوء تدريجياً، لأن الجماهير لسبب غامض وغير مفهوم لفظتهم.
في الأعوام الأخيرة، أغلقت مجلات عريقة وصحف كبيرة فقط لأن القراء فضلوا عليها النكت التي تأتيهم على الواتسآب. الخبازون والنجارون أيضاً يقدمون أعمالهم للجمهور. الناس عملياً، تحكم على الخباز والنجار الجيد أو الرديء بناء على إنتاجه. هذا صحيح، ولكن الخباز يوزع أرغفته على الحي الصغير، ولا يوجد نجار واحد يصلح في يوم واحد ملايين الأبواب المخلوعة.
قد يرد أحد ويقول: وماذا عن اللاعبين والفنانين؟ هؤلاء عملهم يظهر للملايين والناس هم المقيمون لإنتاجهم. هذا طبعاً صحيح، ولكن هناك فرق كبير هو ما يجعل مهنة الصحافة أنبل وأكثر احتراماً، لأن الصحافي مصارع يبحث عن الحقيقة، ويجازف بعضهم بحياتهم في ساحات النزاعات والحروب لإضاءة الواقع كما هو. هل يوجد فنان أو لاعب ذهب لساحات الحروب أو جز داعش عنقه؟! هل يوجد مصمم أزياء ذهب لكهوف الإرهابيين لمحاورتهم؟ طبعاً لا.
هذه المهن، على ما فيها بالطبع من إبداع وقيمة عالية، إلا أنها بالنهاية تعتمد على الشكل أو الصوت أو الأداء أو ركل الكرة. عندما يبحث الناس عن الأخبار السعيدة والتعيسة التي تمس صلب حياتهم لا يستمعون للأغاني أو يهرعون لـ"الاستادات" الفارغة، بل يفتحون على الشاشات والمواقع الإخبارية.
حتى من لا يذهب للحروب من الصحافيين يعبرون عن آرائهم الفكرية، وهذا ما يجعل الصحافة أيضاً وظيفة فكرية تتجاوز شخص الصحافي نفسه، وربما تورطه وتهدد مستقبله وتقطع عيشه. صراف البنك لا يقف وسط الفرع الذي يعمل فيه ويصوت معلناً عن أفكاره المثيرة في الحياة ورؤيته حول القضايا الأكثر إثارة للجدل. غالبية هذه المهن يعمل أهلها فقط لزيادة المرتب الشهري ولا حاجة لهم للتعبير عن أفكارهم الخاصة. المهم أن تعرف كيف تحاسب أو تعقد صفقة وتذهب للبيت مسروراً، لأن رصيدك زاد صفراً أو صفرين. الصحافة مهنة فكرية وليست عضلية، ولهذا يتعرض الصحافيون للهجوم وتشويه السمعة من المتعصبين، ويصفونهم بأبشع الصفات، لأن الصحافيين أصحاب مواقف فكرية واضحة يشتبكون فيها مع خطاب المتطرفين ويكشفون شرورهم. لا يهاجم المتطرفون اللاعبين أو الفنانين، بل في أحيان كثيرة نرى هؤلاء النجوم يتحالفون بشكل مخجل مع رموز التعصب لأنهم يخشون جماهيرهم.
الصحافة مهنة فكرية إبداعية ولكنها تنطوي على مفارقة محرجة، عليك أن تُبدع ولكن لا تخطئ، مع أن الإبداع والتجديد يحتمل هامش الزلل غير المقصود. الصحافة ليست مهنة رتيبة مثل الأكاديمي الذي يعرف المحاضرة التي سيلقيها على طلابه غداً، والأخرى التي سيلقيها عليهم بعد شهرين. الصحافة خطرة وغير متوقعة، ويدرك الصحافيون ويقبلون هذا المشي اليومي على الحبال، ويرون زملاء المهنة يتساقطون منه ولا يلتفت لهم أحد.
عيوب الصحافة ليست بطبيعتها، ولكن لأنها جالبة للشهرة فإنها مثل النار التي تجلب حولها من لا علاقة لهم بالمهنة من المنتفعين والمهووسين الباحثين عن الأضواء وصور السيلفي مع المعجبين.
لكن ما هي المهنة الأفضل من الصحافي؟ في تقديري الشخصي أن السياسي الحقيقي ورجل الدولة الصادق هو في مرتبة أعلى. هؤلاء قادرون عملياً على تغيير حياة الناس للأفضل، وإخراجهم من جحيم الفقر وصناعة مجد حضاري لهم، لا يستطيع أي صحافي وكاتب القيام به.