غياب ثقافة الصحافة

ذا كانت حرية الصحافة أو الصحافة الحرة هي الضمانة التي تقدمها الحكومة لحرية التعبير ويكفلها دستور البلاد للمواطنين، فإن الدولة قد حققت هذا الأمر فكفلت هذه الحرية حتى امتدت وشملت مؤسسات بث الأخبار وتقاريرها المطبوعة والالكترونية والمسموعة و المرئية؛ كما أمدت تلك الحرية لتشمل جمع الأخبار والعمليات المتعلقة بالحصول على المعلومات الخبرية بقصد النشر. و بهذا فقد نَعِم الفضاءُ الإعلامي في هذه البلاد نظريا بترسانة قوانين مكتملة و حامية لأهل الحقل و أبعدت عنه نهائيا مقص الرقابة الجائر المعروف بالمصادرة تحت طائلة المادة إحدى عشر.
من هنا، فإنه لا شك أن الصحافة تنعم، نظريا، بالحرية المطلقة في التعبير و لو أن ذلك يحدث كله بفوضوية عارمة و في ظل غياب أية ثقافة للصحافة و بعيدا كل البعد عن التقيد بالمقومات المهنية من جهة، و الضرب بعرض الحائط أخلاقياتها العالية و ضوابطها المحكمة من جهة أخرى.
و بالطبع فإن هذه الوضعية البنيوية المختلة هي التي أفقدت حقل الصحافة في شكلها و مضمونها القدرة على التنظيم و المأسسة و منعتها أن تقوم و تنتظم في قوالب ناضجة، و أضرت بالصحفيين أنفسهم في مستوياتهم و مخرجاتهم التي كان من المفروض أن يظهروا بها و يؤدوا بكفاءة و حرفية ليحملوا المهنة على أكف الالتزام و محمل الجد و يرقوا بها إلى مقام السلطة الرابعة الوازنة مكانتها الطبيعية و حتى يتقمصوا هم صفاتها المثلى.
و هو الضعف البنيوي الذي أفقد الصحافة - منذ أول وهلة من الإعلان عن تحرير الفضاء السمعي البصري - دعامة الالتزام بمرتكزات الإعلام الديمقراطي الذي يقصد به توفير أقصى قدر ممكن من الدقّة في نقل الأخبار والسعة في وجهات النظر والوقوف مواقف مستقلّة تجاه المؤسسات العامة والسياسية و الارتكاز إلى دستور مبادئ السلوك والآداب يشمل التحليل الانتقادي ونقل المعلومات الموثوق بها يتم التقيد به و العمل بمقتضاه.
و المتتبع للتخبط إلى إعادة كرة فشل الروابط و النقابات من خلال المنافسة المحمومة على كسب رهان التربع على خوائها و سوء أدائها و انقسام المنتسبين إليها بين التيارات السياسية دون المهنية لا بد أن يلحظ هشاشتها و النفعية المقصودة من ورائها دون إصلاح حقل مائع، فاسد و متخلف عن ركب الحداثة.
و إذ يقول قائل إن البلد تربع للمرة الرابعة أو الخامسة على رأس الدول العربية في مجال حرية التعبير و هي المفتقدة إلى حرية الرأي و الصحافة، و يحسب الأمر نصرا وطنيا، فإن واقع هذا التربع ناتج عن مبالغة في الحرية الاعتباطية الناتجة عن عقلية "المشِ اعل القرظ" التي تبدو للآخر ضربا من حرية بناءة، و لكنها في الواقع بلاء مبرم من نتاج عقلية انفلات المنظومة الاجتماعية من قوالب الضبط و الانصياع للنظام المركزي و لو تقديريا، بما تسببه من الإرتباك و الخواء، و لما لا تسعى إلى تحقيقه من توجيه و نقد فعال للأداء السياسي الخائر، و التنموي الضعيف، و الإصلاح الاجتماعي المحكوم بقيود الماضي في أسوء أثواب الارستقراطية القبلية العشائرية المتسلطة، و الجهوية العرجاء، و الشرائحية، و الطبقة الاثنية الغابنة الظالمة، و الترفع عن العمل المقيد لكل بناء، و الهبوط التراجيدي في أضان الاتكالية و الانتهازية و النفاق السياسي، و النهب سوء التسيير، و الفساد المدمر و تبديد مقدرات البلد و سوء التسيير و تعميق الهوة بين الفقراء و المحرومين من جهة، و بين القلة المتخمة بمال البلد و حقوق الشعب من جهة أخرى.
و هل في ظل مثل هذه الواقع الأليم، الذي يريد البعض أن لا يوصف و لا ينعت بذلك، يمكن للإعلام الموزع بين تيار الخور الارتكاسي المنتمي لخطاب و ممارسات الماضي و تيار تزكية خط الفساد و تقويض التنمية، أن يبتعد الإعلام ـ على خلفية " ثقافة صحافة" مبتكرة ـ في هذه المرة و هذا المنعرج عن إعادة إنتاج نفس الإطارات التنظيمية الخائرة من روابط و نقابات و نوادي، و مثيلاتها الموالية لأقطاب القوة المهيمنة أو المحرضة الحاقدة، و أن ينبذ الاستكانة و يحدث المفاجأة التي تضفي عليه و بوصفه علاما جديدا المصداقيةَ "المشتهاة" و تحدد من جديد رسالته النبيلة و ترفعه إلى مكانته الطبيعية بوصفه السلطة الرابعة؟

اثنين, 15/05/2017 - 09:57

          ​