التقت عيناه بعينها، فابتسمت. ولا نبس ولا نبست. وانتهي اللقاء الأول الخاطف.وتجدد اللقاء حينا آخر، فكان الحب؛ ؛وكان المرح؛ وكان الاندفاع. ثم فجأة، توقف كل شيء. وأضحي محمود يرقب رقية بحب وأسي وحسرة، غير قادر على التقدم أو التأخر. فمن يحمل وزر أحزان محمود؟ وهل هناك من سبيل لتتراجع سطوة الطبقية، ويغفر محمود بزواج من يحب؟
الحب من أول نظرة اعتاد محمود، الشاب العشريني، قضاء جزء من الراحة الصيفية مع أهله في قرية "كلير"؛ في الجانب الشرقي مما يعرف بمنطقة آفطوط ( 35كلم شرقي باركيول). وفي ضحي احد الأيام، سار مع مجموعة من رفاقه لزيارة قرية مجاورة (تقع بمحاذاة كلير من الغرب) ، بناء على دعوة من أصدقاء لهم هناك. وفي القرية هذه، قضوا نهارهم في غبطة وسعادة ومرح. ولدي القفول سيرا على الأقدام، مروا على مجموعة من فتيات القرية المزورة في الوادي. ورغم أن اللقاء كان خاطفا، لم يعمر غير لحظات قليلة، إلا أن شيئا ما طرأ على نظر وقلب محمود؛ فقد أسرته إحداهن بنظراتها البريئة وابتسامتها المحتشمة، وشده وجهها البدوي الحسن الوضاء. فما عاد محمود، من ساعته، غير الذي كان. أيام الورد رجع محمود، في اليوم التالي، إلى القرية المجاورة. وسأل عن مكان تواجد الفتاة، فدل عليه. ولحسن طالعه، فلم يك في بيت الفتاة من رجال لينغصوا عليه تلهفه للتعرف عليها.فتاة محمود اسمها رقية؛ وتسكن مع والدتها،وأخواتها الثلاث. وليس لها إخوة، وأبوها انفصل عن والدتها منذ لأي. واطلع محمود، في سفره الأول هذا، على أن رقية سبق لها الزواج دون أن ترزق أبناء.وسأل محمود عن كل أمر ودقق في كل شأن، حتى ما عاد في ريب من شيء . ولم يغادر القرية إلا وهو مقتنع أن رقية هي الفتاة التي يبحث عنها.
ورغم حال أهلها البائس ومظاهر الحياة القاسية الرتيبة التي تعيشها رقية مع أهلها، إلا أن ذلك لم يقف عائقا أمام محمود في أن يعقد العزم على التفكير بجد في الزواج. ابتدأ المشوار، وفي كل مرة يزداد محمود اقتناعا بأن رقية خلقت له، وأنه خلق لها؛ وأن كل شيء يبحث عنه في شريكة الحياة يجده، ببساطة وعفوية عند رقية.ولكن، وبينما محمود يزهو بأيامه الحلوة العذبة مع رقية ،كانت الرياح تجري بما لا يشتهيه. عوائق على الطريق يحرص محمود على مجالسة والدته، واقتناص ما تيسر له من وقت في الحديث معها، وحتى في همومه ومشاغله الخاصة.
فأمه كصديق حميم مرة يضاحكها، ومرة يطارحها شجونه، فيشاورها ويأخذ برأيها. ولما جاء الدور وسألها عن رقية، لم تبد أي حماس أو اهتمام. وما انفكت تردد على أسماع محمود أنها ليست لك ولا تصلح لمثلك. وطفق محمود يسأل ومالمانع يا أماه!فترد تارة بأنها مطلقة؛ وعليه البحث عن فتاة عذراء خالصة. وتارة أخري بأنها لا تناسبك؛ فنحن-والكلام لوالدة محمود-نعرف حالها وحال أهلها، فدعني حتى لا اضطر لقول أكثر من هذا. وفي كل مرة ترغِّب ابنها في البحث عن أخري غير رقية. فوالدة محمود إلى الآن، تمسك العصا من المنتصف. وتظهر الليونة وشيئا من الكياسة حتى تصرف محمود عن رقية دون الالتجاء إلى طرق أكثر حدة.وقد لمس محمود من إخوته وأخواته، خاصة، بعض الجفاء؛ وإن لم يكلمهم بعد في شأن رقية. وسمع من بعض الجيران أنهم يحرضون والدته على التغليظ عليه في أن لا يقرب رقية ولا يتخذها زوجة. القرار مضي بعض الوقت.
وحسم محمود أمره. وعزم على التقدم لخطبة رقية.وقبيل التوجه لطلب يد رقية، ابلغ والدته الخبر. فما إن سمعته حتى أغمي عليها. وطار محمود؛ فاحتضن والدته، وأمسكها أن تقع على الأرض. وجاء الجيران ومن حولهم. وشيئا فشيئا، استعادت والدة محمود وعيها. وحين ذهب ما كان معها؛ ابتدأت تكشف لزوارها عن الأسباب التي أفقدتها الوعي. وحتى ذاك الحين، لم تك على يقين من تصميم ابنها على المضي قدما في الزواج. لذلك حاولت مراجعة محمود والضغط عليه حتى يتخلي نهائيا عن أمر الزواج من رقية، ولكن بطرق أخري جديدة. سلاح الطبقية ينتسب محمود لطبقة "ازوايه". ويحسب هؤلاء أنفسهم في قمة الهرم الاجتماعي. ويتزوج المنحدر من هذه الطبقة على العادة بإحدى بنات عمه. ولا يسمح له بأن يتزوج ببنات الطبقات التابعة ك"أزناكه" أو "لحراطين" أو "لمعلمين" أو "إيغاون" ؛ والتي تصنف في أسفل الهرم الاجتماعي. ولا يغفر لرقية كونها من أزوايه. فلكون أمها "حرطانية" ، فإن لعنة "النقاء" تلاحقها.ويقضي التصنيف الاجتماعي المتبع بأن تحسب في درجة أقل من محمود الذي ينحدر أبواه من طبقة "ازوايه".
وفي محاولة لسد الباب نهائيا أمام الزواج، بادرت والدة محمود إلى إبلاغ والده وجميع أفراد عائلته. والذين أعلنوا براءتهم منه، إن هو واصل مسعاه. وأرسلت إليه كل أحد يستطيع التأثير عليه حتى تثنيه عن الأمر. وتقول والدته إنها ستتعرض لنوبة أو سكتة إن هو فعلا تزوج رقية. الحيرة يقف محمود حائرا لا يدري ما يصنع! فهو يحب والدته وأهله؛ وما سعي قط إلا لأن يكون بارا وصالحا. ومن جهة، يري جازما أن رقية هي الفتاة التي يبحث عنها كشريكة حياة.
ويزداد اقتناعا، خصوصا أن لا أحد إلا ويشهد لرقية بحسن الخلق والسماحة والطيبة وحسن المعاشرة. ويغضبه موقف أهله. فهم يشهدون، كما يشهد الآخرون، بهذه الصفات.ولكن مع إقرارهم بهذا، يمتنعون عن قبولها زوجة لابنهم. فلعنة الفارق الطبقي لصيقة وغير متجاوزة، ولا تجبر مهما كانت أخلاق وشمائل الفرد. فما عسي محمود أن يفعل؟ يعيش محمود هذه الأيام في هدنة. فهو لم يتقدم بعد رسميا للزواج من رقية؛ آملا أن يتزحزح أهله عن موقفهم. ولا يهم محمود غير والدته؛ فهو يحبها حقا. ويأمل في أن تجنح للقبول بزواجه من رقية.وحتى يتم لمحمود ذلك، فهو يواصل مشواره مع رقية؛ مع الأمل أن تكون نهاية المحنة قريبة.
سيد أحمد ولد أعمر ولد محم