عبدالكريم غلّاب .. هل مات قرير العين؟

أعادني نبأ موت عبدالكريم غلاب (1919 -2017) عن ثمانية وتسعين عاما، ربما كان أطول أدباء العربية المعاصرين عمرا، إلى أسئلة الأدب والريادة وما جرى لمسيرة ثقافتنا العربية كلها مع التنوير، في أكثر لحظاتها حلكة وانسداد أفق. فقد كان من رواد الثقافة الوطنية العربية التنويرية في القرن الماضي، ومسيرة تبلور الوعي الوطني العربي والنضال ضد الاستعمار والتحرر منه، وعاش حياة خصبة مترعة بالعطاء وطول العمر تذكر بحيوات نجيب محفوظ (1911-2006) ومحمود المسعدي (1911-2004). وتذكرت عنوان مجموعته القصصية الأولى (مات قرير العين) عام 1965 وهي تطرح سؤالها المدبب عليّ من جديد، هل مات هذا المثقف العربي الكبير قرير العين؟

فقد كان عبدالكريم غلّاب مثقفا عربيا بالمعنى الشامل لهذه الكلمة. أسعدني الحظ بمعرفته معرفة وثيقة أثناء سنوات ترددي المستمر على المغرب، وخلال فترة إقامتي به لعدة شهور في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث كنت أتردد أثناءها بانتظام على مكتبه كلما زرت جريدة (العلم) وصديقي الراحل الكبير فيها عبدالجبار السحيمي الذي كان يرأس تحريرها في هذا الوقت. فقد كان يذكرني، بدماثته ورغبته المستمرة في التواصل مع الآخرين، بتوفيق الحكيم ومكتبه في الدور السادس من (الأهرام) الذي كان لا يخلو أبدا من الزوار، ولا ينقطع فيه الحديث في الأدب والفكر والسياسة. وكان كعدد كبير من أبناء هذا الجيل الرائد مثقفا موسوعيا متعدد الاهتمامات، يضع نصب عينيه هموم وطنه الصغير المغرب، دون أن يغفل عن هموم وطنه العربي الكبير في سائر أقطاره المختلفة. كما كان متابعا دؤوبا لكل ما يدور في الثقافة العربية الواسعة من المحيط إلى الخليج، شغوفا بالتعرف على جديدها ومتغيراتها. فما زرته مرة إلا وسألني عن جديد الواقع الأدبي في مصر وفي المشرق العربي، وقدم لي هو وعبدالجبار السحيمي الكثير عما يدور في الأدب المغربي وما يصدر عن كتابه ومثقفيه.

كان عبدالكريم غلّاب بحق مثقفا عربيا حتى النخاع، وكانت السمة الأساسية للمثقف العربي في جيله هي وطنيته واهتمامه بالشأن الوطني والعربي العام. دون أن يشغله هذا الاهتمام عن تجربته الأدبية ودوره الثقافي. فتجربته الأدبية هي بلا شك أهم تجارب الكتاب الرواد في المغرب العربي، وأطولها امتدادا في الزمن، وتنوعا في العطاء والنشاطات الأدبية المختلفة. فهو أحد أبناء الجيل الذي تفتح وعيه في زمن استعمار المغرب، وسيطرة الفرنسيين عليه، وتعلم العربية في المدارس القرآنية أو "الكتاب" في فاس. ثم درس في القرويين ـــــ وهي أزهر المغرب ــــ حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ ورحل إلى القاهرة ليدرس في كلية الآداب بها عام 1940 وتخرج منها عام 1944. وعمل منذ ذلك التاريخ في التعليم في المدارس المصرية والمغربية، وخاض غمار الحركة الوطنية في حزب "الاستقلال"، وظل مخلصا لهذا الحزب بعدما انشق عليه الجناح الذي أصبح الآن "حزب الاتحاد الاشتراكي". ثم عمل في الصحافة وفي وزارة الخارجية المغربية، وكان وزيرا بالحكومة المغربية 1981-1985، وجاب في عمله معظم البلدان العربية والأوروبية، وعددا لا بأس به من بلدان الأميركيتين وبلدان آسيا وأفريقيا. بصورة وسعت من أفق تجربته وساهمت في تنوع مجالات عطائه الوطني والأدبي على السواء.

وطوال هذه الحياة المترعة بالخبرات والنشاط، استمر في الإخلاص لتجربته الأدبية لأكثر من نصف قرن من الزمان، وواصل الكتابة القصصية والروائية والصحفية بلا انقطاع حتى الآن. وقد صدرت أعماله الأدبية الكاملة عن وزارة الثقافة المغربية في خمسة مجلدات كبيرة، يضم أولها مجموعاته القصصية (مات قرير العين) عام 1965، و(الأرض حبيبتي) عام 1971، و(أخرجها من الجنة) عام 1977، و(هذا الوجه أعرفه) عام 1997، ونص حواري قصير بعنوان (السد). ويضم المجلد الثاني ثلاثة أعمال دعاها بالسيرة الذاتية الروائية، وتتكون من روايته الأولى (سبعة أبواب) 1965، ورواية (سفر التكوين) عام 1996، وكتاب (الشيخوخة الظالمة) عام 1999. أما المجلد الثالث فيضم روايتي (دفنا الماضي) عام 1966، و(المعلم علي) عام 1971. بينما يضم المجلد الرابع رواية (صباح ويزحف الليل) عام 1984، ويضم المجلد الخامس روايتي (وعاد الزورق إلى النبع) عام 1989، و(شروخ في المرايا) عام 1994. وهو إنتاج أدبي إبداعي ضخم بأي معيار من المعايير، وكل إنتاج ضخم هو إنتاج تتفاوت حظوظ أعماله المفردة من الجودة والعمق والتوفيق.

وله بالإضافة إلى هذه الأعمال الإبداعية التي صدرت في هذه المجلدات الخمسة ثلاثة كتب في أدب الرحلات: هي (في الإصلاح القروي) و(صحفي في أمريكا) و(من مكة إلى موسكو)، فضلا عن أكثر من عشرين كتابا في الدراسات الأدبية والفكرية والتاريخية والسياسية. من أبرزها (نبضات فكر) عام 1961، و(في الثقافة والأدب) 1964، و(دفاع عن الديموقراطية) 1966، و(رسالة فكر) 1968، و(تاريخ الحركة الوطنية بالمغرب) 1968، و(دفاعا عن القول) 1972، و(صراع المذاهب والعقيدة في القرآن) 1973، و(الثقافة والفكر في مواجهة التحدي) 1974، و(الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات) 1977، و(الفكر التقدمي في الأيديولوجية التعادلية) 1979، و(عالم شاعر الحمراء) 1982، و(مجتمع المؤمنين من هدي القرآن) 1988، وغيرها من الكتب والدراسات.

وإذا ما بحثنا عن الخيط الرابط بين كل هذه الأعمال المتنوعة، سنجد أنه الدعوة إلى الارتباط بالوطن والسعي إلى لعب دور في تحريره من كل ما يعرقل انطلاقه إلى أفق أرحب وأفضل؛ سواء أكان تحريره من الاستعمار الذي خاض من أجله صراعا مستمرا أدى به إلى السجن في زمن الاستعمار الفرنسي، أو تحريره من التخلف والخرافة والفساد والاستبداد. فقد كان بحق ابن مرحلة الاستنارة العقلية العربية بكل معاني الكلمة. وخاض معارك تحرير بلاده من المستعمر مناضلا في (حزب الاستقلال)؛ أول وأعرق الأحزاب الوطنية في المغرب. وواصل بعدها، كما يتجلى في كتبه العديدة التي جمع فيها مقالاته الصحفية، النضال من أجل تحريره من التخلف والفساد والاستبداد. واستمر في هذا الدور حتى أقعدته "الشيخوخة الظالمة" حسب عنوان الجزء الأخير من سيرته (الشيخوخة الظالمة: سيرة ذاتية لشاب يرفض الشيخوخة) عن مواصلة هذا الدور بعد سنوات قليلة من هذا القرن.

فهل يمكن أن نقول الآن مستعيرين عنوان مجموعته القصصية الأولى إنه "مات قرير العين"؟ أم أقضت التغيرات المؤلمة، التي لابد وأنه تابع مسيرتها الكئيبة في العقد الأخير من حياته مضجعه وحرمته من أن يموت "قرير العين" وهي تطرح عليه أسئلة ما جرى، ودور المثقف المغربي فيه؟ أم أن موته في ذروة تصاعد أحداث الحسيمة وحراكها الريفي دليل على أن بذور الحرية التي زرعها في العقل المغربي ستواصل الإثمار، وستفتح طاقة أمل في هذا الظلام العربي الكئيب. للجواب على هذا السؤال أحب العودة إلى روايته الأولى (سبعة أبواب).

"سبعة أبواب" وتجربة السجن والنضال:

كتب عبدالكريم غلّاب روايته الأولى بعدما تجاوز الأربعين بقليل، ونشرها عام 1965، بمقدمة من الناقد الكبير محمد مندور. ويتناول فيها تجربة الكفاح من أجل استقلال المغرب بقيادة محمد الخامس، وتعرضه شخصيا للسجن لمشاركته فيه. وهي تجربة لم يكن قد انصرم عليها أكثر من حفنة من السنين. ومن هنا فنحن في هذا العمل بإزاء نص لا تفصل بين زمن تجربته وزمن كتابتها إلا سنوات قليلة. ولذلك يصنفه الدكتور محمد مندور في مقدمته بأنه من الأوراق الخضراء وليس من الأوراق الصفراء. أي أنه من النصوص التي تفضل تجارب الحياة الحية المعاشة على غيرها من مصادر الأدب. ويصف كاتبه بأنه من القادرين على تحويل هذه التجارب الحية المعاشة إلى أدب وفن، لأنه ممن "يملكون القدرة على الاستبطان الذاتي وصدق الملاحظة ووضوح الإحساس، ثم القدرة على التعبير" وقد صنف الدكتور محمد مندور هذا العمل في منزلة هي بين القصة والذكريات، أو بالأحرى هي "ذكريات تكون في الواقع قصة مسلسلة الأحداث، وإن يكن الجانب القصصي فيها ثانوي الأهمية إلى جوار المضمون الإنساني والوطني الذي صبه الكاتب في هذا الإطار القصصي". وتستمر المقدمة في التركيز على هذا الجانب الوطني، وعلى الروح المعنوية العالية للبطل/ الراوي/ الكاتب، فقد "اجتمعت لتلك الذكريات عناصر التشويق المختلفة، مما يدفع إلى المضي في قراءتها، وتمثل الروح الوطنية الشجاعة التي تنصب فيها، دون أن تنحرف إلى الخطابة المجلجلة، أو المبالغات الساذجة. مما يجعل منها تجربة تجمع بين المتعة الفنية والهدف الوطني الرفيع. ويجعل قراءة كل عربي لها واجبا وطنيا، ومتعة فنية وإنسانية في نفس الوقت".

والواقع أن هذا الواجب الوطني هو أول ما يلفت الانتباه عند التعامل مع هذا النص الأدبي وإعادة قراءته في هذا الزمن العربي الرديء. فما أحوجنا الآن إلى هذه اللغة الوطنية الناصعة في زمن الهوان وعودة الاستعمار إلى منطقتنا العربية بوجهه الكئيب من جديد. فلا يغيب عن فطنة القارئ العربي أن الاستعمار قد عاد إلى بلادنا منذ فرط فيها حكامها، وحرصوا على عروشهم الخاوية أكثر من حرصهم على أوطانهم الغالية. في هذا الزمن العربي الرديء الذي يرعى فيه العدوان الأمريكي بطش الغطرسة الصهيونية وعسفها بالشعب الفلسطيني الأبي، دون أن يرتفع صوت حاكم عربي واحد يهدد ــــ ولو باللسان وهذا أضعف الإيمان ــــ المصالح الأمريكية في المنطقة، لابد لنا من العودة إلى تلك النصوص التي تذكرنا بزمن النضال ضد المستعمر الأوروبي. وبالثمن الذي دفعه الوطنيون في الأجيال السابقة لتحرير البلاد التي يوطئها حكامها الآن للمستعمر الجديد.

أقول ما أحوجنا الآن إلى هذه اللغة الناصعة وهذا البيان المشرق الجميل، لأن أول ما يلفت نظر القارئ في هذا النص السردي هو لغته المشرقة وبيانه السلس السلسبيل. بيان يفصح دون لكنة أو عيّ عن وضوح قصده، وجلاء غرضه، ألا وهو مقاومة المستعمر وإحباط خططه والزراية بعملائه ببسالة لا خوف فيها ولا لجاج. فموضوع هذا النص إذا كان لنا أن نبدأ بالحديث عن موضوعه ليس مجرد تسجيل تجربة اعتقال هذا الوطني اللامسمى، لأنه كل وطني جدير بالانتساب إلى الوطن العربي، وإنما الكشف عبر ذلك كله عن أن الوطني الأعزل من كل سلاح هو في حقيقة الأمر أقوى بإيمانه بوطنه، وتفاؤله بمستقبله، من الاستعمار المدجج بالسجون والافتراءات والأسلحة والعملاء، المحاصر بكراهية الوطنيين والخوف من تصرفاتهم الباسلة. فالكمات الأولى في النص تكشف لنا من البداية عن هذه الحقيقة "لم تكن المرة الأولى التي عرفت فيها السجن، ولذلك لم أكن لأتهيب السجن كما يتهيب الأطفال باب المدرسة لأول مرة. ولم أباغت بالسجن يصدر حكما من فم القاضي أو رئيس الشرطة، كما يباغت الخارجون على القانون حينما لا يتوقعون نتيجة ما يرتكبون، بل إني كنت أسعى إليه عن عمد وسبق إصرار كما يقول رجال القانون". وعلينا من البداية أن نلاحظ هذه المزاوجة بين السجن والمدرسة، وكيف أن البطل/ الراوي يقتحم التجربة غير هياب ولا وجل. بل يتوقعها ولا يأبه بعقباتها لأنه آثر كما يقول لنا "أن يكون في قلب المعركة لا على شواطئها، وأن أحيا مع الأحياء، لا أن أعيش كما يعيش العائشون يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق".

لأننا إذا ما بحثنا عن موضوع رئيسي لهذا النص سنجد أنه طرح نموذج الإنسان الوطني الذي يقتحم أخطار النضال غير هياب في مواجهة الذين يعيشون تلك الحياة الخاملة "يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق". فالنص يبدو على السطح وكأنه يقدم لنا تلك التجربة الذاتية الحميمية، تجربة اعتقال البطل/ الراوي/ الكاتب وبقائه في السجن تحت ذمة التحقيق، ثم الإفراج عنه دون محاكمة بعد ستة أشهر. لكن هذه التجربة الحميمة مروية بطريقة تنطوي طوال الوقت على طرح هذين النمطين المختلفين للحياة كل في مواجهة الآخر. وعلى ترسيخ قيمة الوطنية والنضال، في ضمير القارئ ووعيه معا، باعتبارها القيمة المبتغاة، والغاية التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش. فبنية العمل كله بنية تعي هذه الغاية وتحرص على أن تتغلغل آلياتها في كل تفاصيل السرد، وتتحكم في سياقات تطوره. فالنص يبدأ بعملية الاعتقال، ولكنه يموضعها في لحظة مفصلية في تاريخ المغرب، وهي لحظة انطلاقة "وجدة" باعتبارها ردا شعبيا على مؤامرة عشرة أغسطس الشهيرة، وما تبعها من أسر الملك محمد الخامس، واحتلال "خيالة القبائل" المسلحة بالعصي لمدينة الرباط.

وهي إذ تموضع عملية الاعتقال التي نعرف من خلال موضعة النص الآن وبعد نشره بأكثر من خمس وثلاثين عاما في سياق سيرة الكاتب الذاتية الروائية أنها كانت تفاصيل اعتقال الكاتب نفسه، فإن النص وقت كتابته لا يطرح نفسه باعتباره نوعا من الكتابة الذاتية، وإنما باعتباره طرحا لنموذج عام. فعندما تقتحم الشرطة المنزل تسأل: "فلان؟" فيرد الراوي "نعم هو أنا". ففلان هذا هو نموذج لكل وطني، لكل استقلالي، فقد كان "حزب الاستقلال" هو حزب كل الوطنيين في المغرب في هذا الوقت، وكان الشعب المغربي كله وقتها "قلب ينبض بذكر محمد الخامس أو حزب الاستقلال" حينما كانا كلاهما وجهين لعملة واحدة: هي الاستقلال الوطني.

الذات الفردية نموذجا للذات الوطنية

ويستمر النص في طرح هذا النموذج الوطني الذي آثر أن يدعوه "فلان" أو أن يبقيه النص بلا اسم، لينطوي على أسماء كل الوطنيين المغاربة، في مواجهة خيطين أساسيين، أولهما خيط المسيرة النضالية في المغرب في هذا الوقت الذي كان يناضل فيه الوطن من أجل الاستقلال. بدءا من أحداث "وجدة" التي أثارت ثائرة المستعمر، وصولا إلى اندلاع النضال المسلح، وتفجير قنبلة في سوق الدار البيضاء المركزي، أدت إلى قتل ثمانية وجرح سبعة عشر من الفرنسيين الذين كانوا يتسوقون فيه استعداد للأعياد الفرنسية، مرورا بمحاولة اغتيال "بن عرفة" والقبض على مزيد من الوطنيين في فاس بمن فيهم والد زوجته. ويتعزز هذا الخيط بأخبار محاكمات الوطنيين في قضية "وجدة" من ناحية، وباجتماعات الحزبيين داخل السجن وتطويرهم لأفكارهم النضالية فيه من ناحية أخرى. وهي كلها من الأمور التي ساهمت في تعزيز قدرة الراوي/ البطل على مواجهة ممثل الادعاء، وتسفيه حججه، والانفلات من شراكه القانونية التي أراد أن يوقعه فيها.

أما الخيط الثاني فهو خيط التجربة الذاتية، تجربة المناضل من ناحية، وهي التجربة الأساسية أو الذاتية الحميمة التي ينشغل بها النص، ويطرحها في مواجهة مجموعة من التجارب الثانوية التي تتجلى من خلال عدد من النماذج التي يقدمها لنا من السجن (مثل نموذج "فويلة" أو "الباريزيان" أو هذا المغربي المتفرنس) أو من خارجه (مثل نموذج العاشقين: العاشق الذي ارتكبت معشوقته جريمة لتلقاه، أو الذي تملكته الغيرة فقص شعر حبيبته وهي نائمة). هذه البنية ليست بأي حال من الأحوال بنية روائية واقعية، ولذلك فإن من يحكم عليها بمعيار الرواية الواقعية يتجنى على النص كثيرا. ولكنها بنية ذات طبيعة أيديولوجية وطنية هادفة، تسعى لتكريس المناضل في مواجهة الذين لا يبالون بما يجري لبلدهم من ناحية، والزراية من ناحية أخرى بالذين يتعاونون مع المستعمر، وييسرون له أمور السيطرة على بلادهم.

وهي من هذا المنظور بنية تتسم بقدر كبير من النوستالجيا التي تتغنى بصلابة المناضل وتسعى لتكريس دوره الوطني بصورة تحيله إلى أيقونة وطنية جديرة بالاحترام. وهذا الهدف الوطني هو غاية العمل الأولى التي لا تعدلها عنده أية غاية، حتى ولو تحقق هذا الهدف ــــ كما هو الحال في هذه الرواية ــــ على حساب الفن الروائي ومعاييره الصارمة. ومن خلال تضافر هذين الخيطين تستمر بنية النص التحتية في التطور من خلال حرص النص على أن يسجل لنا تجربة سجن البطل/ الراوي منذ لحظة القبض عليه، ثم أخذه إلى مركز الشرطة في سيارة يتأمل أثناء رحلته فيها مصير جهاز السلطة في زمن الاستعمار، ونوعية المتعاونين معه من المغاربة. ثم وصوله إلى مركز الشرطة حيث يجد غرفة التفتيش في المركز الرئيسي وقد تحولت إلى غرفة للعب القمار بين الموظفين، فيتذكر "أن ميزانية الشرطة كانت أعظم من ميزانية التعليم"، ولا تزال هذه هي حال الميزانية المعوجة في كثير من بلداننا العربية حتى اليوم.

ويبدأ التحقيق المبدئي معه في مركز الشرطة فيحرص على ألا يذكر لنا اسمه إذ تكون الإجابة على هذه التحقيق المبدئي: "اسمك؟ اسم أمك؟ اسم أبيك؟ محل ولادتك؟" بكلمة واحدة "فاس! آه أنت من فاس .. فاس بلدي فأنا فاسي، قضيت فيها عمرا من عمري منذ جئت شابا من فرنسا في أعقاب الحرب" وهو تحقيق يؤكد حرص النص على ألا يمنح البطل اسما كي يستطيع حمل أسماء كل الوطنيين من ناحية، ثم ينسب الحركة الوطنية إلى فاس من ناحية أخرى كي تظل فاس موطن الوطنية، ونبراس الانتساب الحق للوطن. ألا ينسب المستعمر الفرنسي نفسه له عل المغاربة يتقبلونه بينهم؟ ولكنه يضع هذا الفاسي المناضل في مواجهة الفرنسي الذي يزعم أنه فاسي هو الآخر، والذي يريد أن يستولي على نسبته إلى المدينة زورا وبهتانا. وهي مواجهة توشك أن تكون عماد النص كله وموضوعه الرئيسي المسيطر على كل شيء فيه.

وينتهي هذا التحقيق الإداري بملء الأوراق المطلوبة، وإيداعه فيما نسميه في مصر بـ"الحجز" وما يدعوه النص بـ"الكهف" لمدة ليلتين التقى فيهما بعدد من النماذج الإنسانية المثيرة، هي نماذج من أهل الكهف الجديد ذاك. وهي نماذج يحتل فيها مركز الصدارة الوطني الذي اعتقل في إحدى المظاهرات، واتهم بتلك التهمة الخطيرة. ولذلك فقد ترك في الكهف ثمانية أيام، وهو من هذه الناحية أكثر خطورة من الراوي نفسه الذي لم يقض فيه سوي ليلتين. ويستمر هذا النص الوطني الوضئ في متابعة تفاصيل تجربة الراوي في السجن. وفشل المدعي عند استجوابه في الحصول على الأدلة الكافية لتقديمه للمحاكمة، وبالتالي ينتهي بالإفراج المؤقت عنه بكفالة، وتركه في النهاية معلقا في نوع من الموازاة بين مصيره المعلق ومصير البلد المعلق هو الآخر مثله.

وهو تعليق يخلق موازاة جيدة بين بنية النص وبنية الواقع الذي يصدر عنه أو يسعى للتعبير عن أحلامه وصبواته. ويحيل ساحة الرواية إلى معادل موضوعي لساحة الوطن على المستوى العقلي والفكري، وإن لم يكن على المستوى السردي والروائي. ويقدم لنا تجسيدا لعالم واقع في قبضة السجن المادي والمعنوي معا، مكبل بالقيود المرئية منها وغير المرئية. فنحن بإزاء نص يحرص على أن يقدم رؤيته لوطنه إلى القارئ العربي في سائر أنحاء الوطن العربي عله يرى فيها شيئا مما يعيشه وطنه وتعانيه أمته المنكوبة. فما يقوله له العون المغربي في نوع من المواساة لما حاق به من ظلم السجن، يضع الجميع فيه "أما نحن فقد بقينا في سجننا الكبير هذا نتجرع كأس الذل. نرى القرود والعبيد يجلسون على عرش المملكة ليتيحوا لسادتهم التحكم المطلق فينا". أننا هنا بإزاء نموذج للوطني وللنص الوطني الذي تشتد حاجتنا إلى تأمله في هذا الزمن العربي الرديء الذي يبدو فيه أننا نسينا أن لنا أوطان، وأن علينا أن ندافع عنها بحريتنا نفسها، لأن الحياة الذليلة في وطن مستعبد لا تستحق أن تعاش، ولأن الأوطان تحيا بقدر حرص أبنائها عليها وعلى حريتها التي لا حرية لهم بدونها، فافتقاد الشعب العربي للحرية لا ينفصل بأي حال من الأحوال عن تردي الواقع العربي كله في التبعية والهوان.

فمن حمل راية الوطن بهذه النصاعة لا بد أنه مات "قرير العين" لأن رسالته ستظل أبدا هي القيمة الأعلى!

د. صبري حافظ

 

 

خميس, 17/08/2017 - 09:31

          ​