مدلول الصورة في الصحافة الغربية والعربية: العرب موتى!

سريعًا ما أدركت الصحافة المكتوبة، سواء ورقية أم إلكترونية، أهمية الثقافة البصرية وتأثيرها، وسريعًا ما استوعبتها لتمثل "الصورة" ركنًا أساسيًا في الخبر الصحافي. الصورة التي كانت شخصية في معظم الأحيان، وباهتة، وكانت تملًا فراغًا لا يتعدى السنتيمترات في صفحة الجريدة، باتت الآن انعكاسًا للرسالة اللغوية، ناطقة باسمها، وانتقلت من صورة فوتوغرافية عادية إلى صورة جمالية، إلى لوحة، إلى رسمة بخط اليد. باتت، ليس مكملًا للخبر، بل عمودًا يحمل الخبر بجانب الكتابة. هذه الصورة كعلامة لها دالها ومدلولها، كما يقول رولان بارت في "بلاغة الصورة"، حيث يستقبل المتلقي الرسالة الحرفية (دال) والرسالة الثقافية (مدلول). هذا المدلول معبّر بالضرورة عن الأيديولوجيا والأخلاق.تكامل بين الصورة والكلمة

أدركت الصحافة الغربية أولًا هذا التحول في الثقافة البصرية بدايةً من التلفزيون واستمرارًا مع الإنترنت، ثم جاءت الصحافة العربية لتنافس مستوعبةً هذا التطور. لقد كان انفتاح العالم تكنولوجيًا سببًا رئيسيًا في هذه الملاحقة، في هذا التأثير والتأثر السريع، حتى أن بعض الصحف العربية تبلغ مستوى العالمية في إخراجها الصحافي واستخدامها للصورة، وكذلك في جودة مضمون ما تطرحه من مواد في هذا السياق. لقد حدث التطور الأكبر والأكثر تأثيرًا ولفتًا في الجريدة الإلكترونية بفضل استخدام الصورة، ما كان له أثره في زيادة عدد القراء خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي واللهفة على متابعة الأخبار الجديدة، ومؤكد عبر الاستخدام الكبير للتكنولوجيا الحديثة من قبل العرب (القاهرة مثلًا سادس مدينة في العالم في استخدام فيسبوك)، كذلك لوجود معيار عالمي "أليكسا" يشير إلى أكثر المواقع زيارة. كل ذلك حدث لأن الصحافة تطورت إلكترونيًا (وستواصل تطورها لأنها طبيعة الزمن) ما سمح بالتحكم في الصورة وحجمها وألوانها، والقدرة على "الزووم" وتأملها من أقرب نقطة ممكنة، كما سمح بإضافة فيديو توثيقي لحادثة ما. مع هذا التطور، بات واضحًا أن للصورة رسالة، تتكامل مع الرسالة اللغوية في المقال أو الخبر، بل وباتت الصورة قادرة على التعبير عن الخطاب اللغوي بمجرد قراءتها بعيدًا عن حرفيتها، ولن تكون مبالغة كبيرة مقولة إن الصورة أحيانًا أفضل من ألف كلمة.

ومع أن الصحافة العربية، في الكثير من حالاتها، قد استوعبت العلاقة بين النص والصورة، إلا أنها وقعت في فخ التسرع في فهم الدال والمدلول في الصورة ذاتها. إذ لم تنتبه للرسالة الثقافية التي تحملها الصورة، خاصة في تغطيات الأحداث الدامية. هنا نلاحظ فارقًا بين الصحافة الغربية وقدرتها على التعبير عن أيديولوجيتها، والصحافة العربية في براءتها.بين الخصوصية والشفقة

     بنظرة متأملة إلى الأخبار التي تغطي سورية، مثلًا، سنلاحظ صور الضحايا الغارقين في دمائهم، المسحولين والممزقة جثثهم، أطفالًا ونساءً ورجالًا. الصورة، على عكس مقصدها في إثارة الشفقة، صورة عنيفة، غير إنسانية، تنتهك حرمة الموت وخصوصية الضحية، كما تثير الغثيان (وليس الشفقة وحدها) في نفس المتلقي. الصورة جاءت معبّرة عن الرسالة اللغوية، وعكست الوحشية التي بها فقد أحد الضحايا حياته بقذيفة أو طلقة أو تحت أطلال بيت هدمته سلطة غاشمة أو إرهابي بلا رحمة. لكن الصورة تمتعت أيضًا بقدر كبير من الوحشية التي تنتقدها، وفيما تطلب من القاريء الشفقة والتضامن ضد الوحشية، نفس القاريء ربما لا يحتمل النظر إليها مرة أخرى وقد يرى فيها وحشية معادلة للحادثة. كأن ناقل العنف عنيف بنفس الدرجة.

     لا تختلف الصحافة الغربية عن الصحافة العربية في هذه اللقطة في ما يخص العرب. صور السوريين الغارقين في دمائهم موجودة في الصحافة الغربية كذلك، بإهمال واضح للعنف الذي تحمله، وباتساق تام مع الرسالة اللغوية، وبوعي أكيد للمدلول في الصورة ورسالتها الثقافية. لكن المعيار الغربي سيتبدل سريعًا حين يتعلق الأمر بضحايا غربيين، لن تظهر الضحية الأوروبية، ضحية الحادث الإرهابي مثلًا، ممزقة أو مشقوقة أو بدماء متخثرة على وجهها. الضحية الأوروبية في حوادث برشلونة أو فرنسا، أو أي حوادث أخرى ولو لم تكن إرهابية، تظهر مبتسمة، في وسط عائلتها، محاطة برفيق وأطفال، وإن كانوا أطفالًا فهم يلعبون ويضحكون ويستمتعون بدفء آبائهم أو بصحبة زملاء الدراسة.العربي دائما ميت!

  في المقارنة ما بين العربي والغربي في الصحافة الغربية تبدو الصورة الفوتوغرافية كعلامة لمضمون متوارٍ: العربي دائمًا ميت، غارق في دمه، لم تكن له حياة من قبل، كان بلا عائلة ولا ابتسامات ولا ذكريات جميلة لأيام خوالٍ. لكن الغربي كانت له حياة سعيدة بترتها يد الإرهاب. في حالة الضحية الغربية تحديدًا، تخالف الصورة الغربية مضمون الخبر، تخونها، لكنها الخيانة المحببة والمطلوبة. هذه المفارقة ما بين النص الكتابي الحزين والمأساوي، النص الذي يسرد كيف كانت الضحايا تقضي وقتها في هذا اليوم قبل الحادث الإرهابي وكيف فقدت حياتها عبر الدهس فتمزق جسدها، وبين صورة الضحية مبتسمة وجميلة ومقبلة على الحياة، هذه المفارقة هي الأقدر على كسب شفقة القاريء، وهي الأولى بأن تتصدر أخبار الصحف، وهي بالطبع الأكثر إنسانية واحترامًا لحرمة الموت.

في حادث برشلونة الإرهابي الأخير، تعمّدت كل الصحف الإسبانية أن تعود إلى ماضي الضحايا، إلى حياتهم، في تناقض تام مع الرسالة اللغوية. اجتهدت الصحافة كوسيلة إعلامية مكتوبة في أن تشير بعمق إلى حياة سابقة بصور تخطف القلب، وتضع المتلقي في قلب عائلة الضحية، ليست العائلة المكلومة على زوج أو ابن أو أم، بل العائلة في سفرها ونزهاتها.  وتجنبت حاضرهم، موتهم الظالم والمفاجئ، صورتهم بعد أن ودعوا العالم لعالم آخر.المتشبه فيهملن ترى ضحية غارقة في دمها، مهشمة الوجه أو مكسورة الجمجمة، حتى الصور الأولى من مكان الحادث لم نر فيها الوجوه، ابتعدت  الكاميرا ليصبح الجسد مجرد نقطة في مشهد كبير، نقطة لن تميز منها ملامح الضحية، حتى الصور القليلة التي تداولها مستخدمو فيسبوك (ولم تكن لا وحشية ولا عنيفة مقارنة بالصور العربية) سريعًا ما اختفت بعد أن تلقت انتقادات حادة من المتلقين الإسبان. فالقارئ لا يبحث، على الأقل في هذه اللحظات، عن دليل لوقوع الحادثة، بل عن الحفاظ على صورة من مات ولم يعد قادرًا على الدفاع عن نفسه. الملفت أن نفس الصحافة لم تنظر بنفس الكود الأخلاقي لصورة "أحد المشتبه فيهم" حتى تلك اللحظة، مشتبه فيه تمكنت الشرطة من ملاحقته فهدد بحزام ناسف يرتديه تبين بعد ذلك أنه كان حزامًا مزيفًا، لكن بعد أن ثقبته رصاصات الشرطة، رغم أنه، حتى تلك اللحظة، كان مشتبهًا فيه. وبعيدًا عن أن رجل الشرطة تسرع في القتل وكانت أمامه وسيلة أخرى كالإصابة من دون قتل ثم تحويل الإرهابي المحتمل للمحاكمة في دولة القانون (بعضهم يتحدث عن صعوبة الموقف وعدم معرفة الشرطي أن الحزام مزيف واحتمالية تفجيره كانت ممكنة، مع أن دور الشرطي ليس الحكم بالإعدام على أحد). كنت أقول إن صورة هذا الإرهابي، بات إرهابيًا بحسب ما أثبتت التحريات لاحقًا، تداولتها الصحف في نفس الليلة الحادث وهو بوجه مغطى بالدماء ومهشم فلا تكاد تظهر ملامحه. هذا التداول للصورة حدث بنفس منطق أن هذا الإرهابي كان ميتًا وسيظل للأبد. ثم لأسباب أمنية، نشرت صور المشتبه فيهم للبحث عنهم، وهي صور فوتوغرافية صغيرة من أجل التحري الأمني والحصول على معلومات ممن يعرفهم.حرمة الجسد

 بالتأكيد لا يتساوى ضحية الإرهاب بالإرهابي، المقتول والقاتل، من خرج ليتنزه مع عائلته ومن ركب عربة ليدهس آخرين دون أي ذنب ارتكبوه، لكن بعد أن صار كل منهما ميتًا لم تقس الصحافة الغربية حرمة الموت بنفس المسطرة: هنا غربي، وهنا عربي، ولن يتساويا، لجسد أحدهما حرمة، ولجسد الآخر انتهاك. إنه نفس منطق نشر صور الضحايا العرب في سورية أو فلسطين أو مصر أو العراق في نفس الصحافة الغربية. العربي، سواء كان ضحية للإرهاب أو للنظام الديكتاتوري أو لحرب أهلية هو الرجل الغارق في الدم، المسجاة جثته على أرض لا يظهر منها إلا اللون الأحمر القاتم المتخثر. هذه التفصيلة التي تبدو هامشية ليست في حقيقتها إلا علامة لها دالها ومدلولها، وعبر العلامات الفالتة من جحيم التدقيق، يمكن تكوين صور مبدئية عن النظرة للآخر، وكما يقول ساراماغو فعبر التفاصيل الصغيرة يمكننا فهم التفاصيل الكبيرة. والتفاصيل الكبيرة هي الرسالة الثقافية المتضمنة في هذا الاستعراض بالصور.خيانة المضمون

 من جانب آخر، ثمة كارثة نفسية تكمن في الاعتياد. اعتياد أن ترى موتى ممزقين تكسوهم الدماء يحوّلك مع الوقت لمتلقٍ سلبي، بلا مشاعر، ستخلف فيك هذه الصور القدرة على مشاهدة الألم من دون تألم، وحتى لو كان النص المكتوب المرافق مثيرًا للرعب، ستبدو الصورة، على فظاعتها، غير ملائمة لمبالغات النص. سنكون، كقراء، قد فقدنا إنسانيتنا فما عاد شيء يؤثر فينا. هنا سنعود إلى مرحلة ما قبل الثقافة البصرية، حيث كانت الصورة الفوتوغرافية لا تهدف إلا إلى ملء سنتيمترات من الصفحة بجانب الخبر، صورة لا ينتبه لها أحد، كما لن ينتبه لها أحد لو غابت. صورة ستغدو بلا دال.

 خيانة الصورة للمضمون خيانة مشروعة في هذه الحالات، أن يكون النص عن حادث إرهابي برفقة صورة تعبّر عن الحياة ليس فقط ضرورة صحافية لترك التأثير المطلوب في قارئ الخبر، إنما بالأساس ضرورة أخلاقية. وإذا كانت الصحافة الغربية تكيل بمكيالين، مكيال للغربي ومكيال للعربي، فعلى الصحافة العربية أن تكيل بمكيال واحد: أن تساوي، في صحافتها، صورة العربي الفوتوغرافية بصورة الغربي، إذ يبدو شاذًا أن ننقل صور الضحايا الغربيين ضاحكين في صورهم إلى صحافتنا، فيما ننقل صور العرب غارقين في الدماء في الصفحة المجاورة، كأننا نتبنى العنصرية (في الصورة) ضد أنفسنا، أو كأننا متفقون على الرواية الغربية عنا. سيكون مجديًا أن تخون الصورة المضمون، هكذا ستنتقل عين القارئ من نص الموت إلى صورة الحياة. حفظ كرامة الموتى

في النهاية، هل تستعين الصحف الغربية بالصحافة العربية عند نقل الأخبار والاستعانة بنفس صورها؟ هل يعمل مصورون عرب في المناطق المتأججة لدى صحف غربية فيرسلون لهم هذه الصور الشنيعة؟ أم هم مصورون غربيون؟ أم تبحث الصحافة الغربية عن صور الضحايا ميتين، أيًا كانت وسيلتهم، لتقدم لقارئها "العربي ميتًا ومسحولًا" بقرار من مجلس تحرير هذه الصحف؟

أيًا كانت الإجابة، فالصحافة العربية تحتاج إلى النظر في مسألة الصورة الفوتوغرافية المواكبة للأحداث الدامية، على الأقل نحفظ لموتانا كرامتهم، أيًا كان ماضيهم وأيًا كانت أسباب موتهم. وربما يكون في ذلك رسالة للصحف الغربية، فتلتقطها، فيظهر العربي في صحافتهم مبتسمًا وسط عائلته، كأن حياة كانت له قبل أن يفقدها تحت قذيفة أو بيت متهدم.  

أحمد عبد اللطيف

سبت, 02/09/2017 - 09:53

          ​