هل التعليم بخير؟

سؤال إن كتبناه على سبورة ما في أحد الفصول النائية في أطراف الوطن قد لا يكون مرئيا، لأن تلك السبورة مليئة بالتجاعيد ومضببة بالمحن..
لكن، وبعيدا عن لغة الشجن والعواطف، لن أسهب في العويل على حال التعليم، فلن أحول كلماتي إلى مجلس عزاء مبلل بدموع التماسيح، بيد أنني سأضع النقاط على الحروف وبكل أمانة ودون لف ودوران وسفسطة مجازية..
حسب تجربي المتواضعة زمنيا في قطاع التعليم، أربعة أعوام صلبة وبلا رائحة كقطع الطباشير البيضاء، سأجمل لكم مشاكل التعليم في عدة نقاط ضامرة كبطون المدرسين نهاية الشهر، ومع كل نقطة، سأعطي مثالا حيا ومباشرا وشرحا مفصلا ومملا، وتلك النقاط كالآتي:
- لسان التعليم
قبل 1999 كان هناك نظام اختياري مزدوج فرنسي-عربي مثل المعجم، فرنسي في مدن السنبلة والثور وعربي في مدن النخلة والجمل، ومختلط داخل العاصمة السياسية والاقتصادية، يعني دولتان داخل الدولة الواحدة. بعده تمت فرنسة المواد العلمية من الابتدائية إلى الجامعة وتم توحيد النظام، إثر إصلاح استعجالي رافقه غياب استراتيجية دقيقة لهذا التحول الضخم، بدعوى أن العربية لا تستوعب العلوم الحديثة، وقد ظهر معه ما يسمى بمقاربة الكفايات-الغامضة بالنسبة لي-والتي لم تكن هناك بنى تحتية تدعمها، فظهرت بالتزامن مع هذا الإصلاح كتب مدرسية تعج بالأخطاء، وخلبطة عنيفة بعثرت أوراق التعليم، رافقها ظهور التعليم الخاص الذي تكاثر بسرعة في المدن الكبرى كنباتات الفطر(شم أهل لخل)، بحيث أزداد الأغنياء علما وأزداد الفقراء جهلا، وأصبحت المدارس العمومية مجرد مقابر جماعية لدفن طاقات اليافعين، ونتائج الباكلوريا توضح ذلك بجلاء، حيث كان أكثر من 90% من الناجحين ينحدر من التعليم الخاص، ونسبة النجاح العامة في مجملها لا تتجاوز 10% من المشاركين. هناك فتاة ترعرعت داخل العاصمة ودلفت للمدرسة مع إصلاح 1999، حصلت على باكلوريا الآداب العصرية-وكر الفرنسية والعربية- في عامها الأول، وسجلت في قسم الأدب الفرنسي لسنيتن ثم هاجرت قسريا للمعهد العالي للبحوث الإسلامية، رغم اجتهادها ومشوارها الدراسي المنتظم، إلا أنها لا تتكلم الفرنسية وتتحدث العربية على استحياء، وحسب الشهود والأدلة، فإن إصلاح 1999 قام بضبط لسان التعليم على "وضعية صامت"، وهذه مشكلة عويصة. حلها دون وفاق ومصارحة قد يسبب فتنة، وتركها على حالها سيكون آخر مسمار يدق في نعش التعليم، إنها تركة ثقيلة من مخلفات خلط السياسة بالتعليم... 
-غياب الرقابة
في السنة الدراسية 2016-2017 لم تزر ثانويتنا أية بعثة تفتيش مختصة في مراقبة أداء الأستاذ، وسمعنا أن السبب وراء ذلك، أنهم لم يحصلوا على البنزين لتعبئة سياراتهم المؤجرة غالبا. قبل ذلك كانوا يأتون مثل السياح، يأكلون اللحم طريا في منازل مديري الثانويات ويتقاسمون نفقات الرحلة بينهم، ليقضي الواحد منهم أقل من نصف ساعة مع الأستاذ، تخيلوا نصف ساعة طيلة العام!
إذا كان المدرس مثلا بلا ضمير، وافترضنا نزاهة المدير المباشر، قد يكون المدير الجهوي فاسداً وستذوب حتما عدالة المدير وصرامته بين خططهما والعكس صحيح أيضا، لذلك من الخطإ ترك الرقابة للأفراد، لكي تكون الرقابة مجدية: لابد من تنوع آلياتها وأن تكون بعيون كثيرة لا بعين واحدة، فترك الموريتاني مع ضميره كرقيب عليه، يشبه كثيرا ترك رئة طرية عند قط جائع ليحفظها، والرقابة لا تحصل بحسن النوايا فقط وكذلك العدالة..
- ضبابية الترقيات
العام الماضي وأنا داخل المكتبة أنفض الغبار عن بعض الكتب وأنبش عن أخرى كانت مطمورة تحت الرفوف، داهمني رجل حسبته للوهلة الأولى أحد أباء التلاميذ فلم يكن وجهه مألوفا بالنسبة لي، القى التحية علي، وسألني:
" هل أنت أستاذ جديد هنا " ؟
أجبته والاستغراب على وجهي، أنا أدرسُ هنا منذ سنتين!
الطريف والمؤلم، أن ذلك الرجل كان هو المكلف بالعناية بالمكتبة لعدة أعوام، وقد تمت ترقيته في نفس العام إلى مدير دروس، وهو لا يعرفني! وأنا أظنني-ولستُ متأكدا تماما-رأيت وجهه قبل ذلك في وقت ما..
-غموض التحويلات
في تخرجنا أخبرونا أن من تم تحويله إلى ولاية ما، لا يسمح له القانون بالخروج منها إلا بعد ثلاثة أعوام، صدقناهم، في الثلث الأول من العام الأول وقبل دخول الرواتب، دخل بعضهم العاصمة ولا أقول خلسة، لأنه قد دخل أروقة وزارة التعليم نفسها، وقد اتضح أن التحويل يشبه تحويل الرصيد!
عندك أقرباء " مهمين " في الوزارة تدخل العاصمة بسرعة، وربما تدخل القصر الرئاسي نفسه إن كنت تمتلك دبابة، غير ذلك، تدفع لأحد سماسرة وزارة التعليم رشوة يختلف حجمها مع اختلاف الوجهة، العاصمة نواكشوط قد تتطلب 600 الف أوقية ونواذيب نصف ذلك، وهكذا. أما الطريقة القانونية قفد تتطلب عدة سنوات وربما عدة عقود..
-البنى التحتية
أولا، معظم تمويلات المدراس هي هبات مالية من جهات خارجية، وربما سمعتم مدرسة اليابان...الخ، التعليم في الريف انهكه التقري العشوائي والقبلية والمحسوبية تجد قرية تقطنها الرياح بها مدرسة جاهزة، وتجد قرية تعج بالفلاحيين والرعاة بها مدرسة عبارة عن عريش، جرسها يظل صامتا مثل جرس كنيسة مهجورة، بها مدرس يقضي جل وقته في مغازلة القاصرات وجمع الفاصوليا والخراف، يحضر قبيل المفتشين بأيام ويقصُّ آثارهم عندما يرحلون، وربما قام برشوة المفتش وتلك أكثر حزما وأمنا. المخابر ما بين غائبة أو متهالكة ومغلقة، لا مطابع ولا قاعات معلوماتية، والأدوات الهندسية مشوهة، من رآني وأنا أحمل بيكارا صدئا يرسم الدائرة بصعوبة، يحسبني محاربا من الفايكينج يحمل قوسا ليعبر نهر الدانوب في العصور الوسطى المظلمة في أوروبا آنذاك. الأقسام في المدن الكبرى مكتظة وتكاد تلفظ التلاميذ من نوافذها، وحبال المدرس الصوتية في ذلك الضجيج، سرعان ما تتحول إلى أوتار " تيدينيت" مرتخية تصدرُ ألحانا خافتة، مع هذا الاكتظاظ يبيعون المدارس ويخططون للمستقبل( من لبعر)!
-الطاقم البشري
هناك طريقتان للاكتتاب، الأولى عن طريق مسابقات للخريجين، لا تغطي حاجة المدارس، بالنسبة لتكوين الأساتذة سنتان تقييمها يحتاج مقالة أخرى، بعد تكوينهم يذوب بعضهم مثل الملح في أوعية الوزارة، وبعضهم يتم تفريغه، والبعض يتكدس في العاصمة، حكى لي أحدهم والعهدة عليه، أن هناك مدرسة في نواكشوط طاقمها يتجاوز أضعاف حاجتها بمرات، قلة من الخريجين تبقى في ضواحي الوطن، طبعا لا فرق بين مدرس في نواكشوط وآخر في رأس الخريطة إلا في علاوة البعد، التي في أعلاها لا تتجاوز 40 الف أوقية، تمنح من كل ثلاثة أشهر. أما الطريقة الثانية تتلخص في التعاقد، وسأعطيكم مثالين حيين منها:
المثال الأول: لقد تخرجت 2011 من كلية والعلوم والتقنيات، وشاركت مباشرة-وللأسف- في مسابقة الأساتذة، في سنة التخرج من المدرسة " العليا " لتشريد الأمل طبقنا في إعدادية تسمى المنسية تقع بين الثانوية العربية والمعهد العالي، طاقمها غريب الأطوار ونوافذ أقسامها محطمة، أنا وزميلي شاهدنا الدرس مع أستاذة عقدوية تدرس الفيزياء والكيمياء، كانت تسدي لنا النصائح وتقيمنا، والمصادفة الطريفة أنها كانت زميلتنا في قسم الكيمياء ولم تتخرج معنا في نفس السنة، لأنها كانت تحمل على عاتقها عدة مواد لم تنجح فيها، وكان تخرجها مرهونا باستيفاء تلك المواد بسبب قوانين LMD.
المثال الثاني: تلميد درسته في الثانوية كان قليل الحضور وليس مباليا بالدراسة ونتائجه متدنية، لكنه منتصف السنة غاب كثيرا فسألت عنه، فقيل لي بأنه قد تم التعاقد معه كمدرس في إحدى القرى، أصبح زميلي. طبعا هذه أمثلة وليس قصدي منها التعميم، فهناك عقدويون أكثر جدارة بكثير من المكتتبين رسميا. النقص حاد جدا، وهناك أقسام لا تدرس بعض المواد طيلة السنة.. 
-غياب التكوين المستمر
أنا مثلا تخرجت كمدرس صيف 2013، وليس في ذاكرتي إلا تكوين قصير ويتيم في اللغة الفرنسية في ذروة الحر في مدينة كيفه، حيث كان هدف التكوين ظاهريا هو تحسين مستوى الأساتذة العلميين في لغة موليير، بينما كان بعضهم هو موليير نفسه، لكنه تعمد إعطاء إجابات خاطئة أثناء التقويم حتى يظهر اسمه في التكوين ويكتسب بعض المال الذي منحته فرنسا لوزارة التعليم بغية التكوين، والحقيقة أنني لم أستفد شيئا من ذلك التكوين، فأذني ليست بيضاء أصلا للفرنسية، فقد كنت أقضي جل الوقت تحت شجرة وارفة الظلال خراج الأقسام، بينما كان المؤطر يهذي مثل راديو RFI بين أساتذة شابت رؤوس بعضهم في الاصلاح القديم، واليافعين منهم-مثلي- قد شبوا في التعليم العربي أيضا،خارج هذا التكوين لم يكن هناك تكوين لا في المناهج ولا حتى في تطوير التعليم ولا يحزنون..
أنا كمدرس مادة علمية وتكويني أصلا عربي، أجمع مع التحضير تعلم ما أحتاجه من الفرنسية، وهو جهد مضاعف، مع غياب التكوين المستمر من الوزارة كما أسلفت سابقا، وختاما سأحكي لكم هذه القصة الطريفة وهي خلاصة المأساة..
في أحد الامتحانات، كان الأساتذة يتوزعون لكتابة المواضيع على السبورة، لأنها لا تطبع وتوزع في أوراق، أعطوني امتحان مادة اللغة العربية لكتابته للقسم الثالث إعدادي، وهو قسم كنت حينها أدرسه الرياضيات، عندما بدأت كتابة الموضوع بأحرف عربية، سمعت إحدى الطالبات تهمس لصديقتها مستغربة ذلك، قائلة لها أستاذ الرياضيات يعرف العربية ويكتبها!!
ضحكت بكل ألم، لان تلك المسكينة لم تلاحظ أن تلك الفرنسية التي أدرسهم بها مكسرة تماما، هذا غيض من فيض والحديث طويل. ليلتكم سعيدة.
هنا تونس بنزرت. طبعا، لم أعلق على تلك الجريمة البشعة التي راحت ضحيتها امرأة ذبحها زوجها، والتي لا يمكن تبريرها مطلقا. لكنني تحدثت عنها بشكل غير مباشر عندما تحدثت عن مآسي التعليم في بلادنا... 
الساعة 02:12 وأقول قولي هدا وأستغفر الله لي ولكم.

 

بقلم :خالد الفاضل

ثلاثاء, 19/09/2017 - 09:47

          ​