يطرح هذا السؤال وكأنه حقيقة ثابتة تنتظر فقط الحدوث. الانهيار حاصل لكن السؤال هو متى. ولكنها في الحقيقة خليط من الأمنيات والهلوسات الذهانية وتنبؤات الكهان أقرب منها للتحليل الواقعي. حتى زعماء التنظيمات الإرهابية يؤمنون بهذه النظرية، ويعتقدون أن عدداً كافياً من التفجيرات والعمليات الانتحارية سيفككها ويدمرها.
مؤخراً زادت نبرة هذه الأساطير بعد وصول ترمب للبيت الأبيض على اعتبار أنه القبطان المتهور الذي سيغرق الباخرة وسط المحيط. ولكن قصة انهيار أميركا أسطورة تكرر باستمرار وقصة تستحق أن تروى.
."في أي عام ستتجاوز الصين الولايات المتحدة الأميركية وتعلن نفسها القوة الأعظم في العالم؟!". هذا السؤال الشهير الذي يطرحه بشكل متكرر عدد كبير من الصحافيين والمؤلفين في أوروبا والولايات المتحدة، يعلن بشكل صريح أن التنافس الصيني الأميركي انتهى عملياً، والمسألة كلها فقط مسألة وقت حتى يتحقق ذلك رسمياً.
بعضهم حدد عاماً معيناً لانهيار العملاق الأميركي وسيكون في عام 2020 أو ربما عام 2026، وبعضهم يجزم بأن الانهيار وقع فعلاً عام 2004. الصحافي والكاتب جوزف جوف نشر كتاباً كاملاً يرد على مثل هذه التنبؤات بعنوان يشي بمضمون الكتاب "أسطورة الانهيار الأميركي". هدف جوف من الكتاب هو تفنيد منطق هذه الموجة الصاعدة التي يقودها كتّاب مشاهير ومعاهد بحوث ودراسات تروج باستمرار لنبوءة الانهيار..
حدث ذلك سابقاً مع الاتحاد السوفياتي. دب الذعر في قلوب الأميركيين مع إطلاق الاتحاد السوفياتي القمر الصناعي سبوتنك 1 عام 1957. انتشرت حينها في الصحافة قصص الانهيار القريب. هناك من تنبأ أن الاقتصاد الروسي سيتجاوز الاقتصاد الأميركي بشكل أسرع من المتوقع، وستعلن أميركا الهزيمة المذلة أمام تصاعد قوة الصواريخ الروسية..
قصة الهزيمة الأميركية المحسومة أمام الاتحاد السوفياتي ثبت أنها مجرد أسطورة. الذي انهار هو الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة أصبحت بعدها الدولة المتسيدة في العالم.
لكن قصة الانهيار تعود مرة أخرى، وهذه المرة مع اليابان. الاقتصاد الياباني الصاعد الذي بدا حينها أنه ينمو بلا توقف ولا شيء قادر على تعطيله، أعاد من جديد أوهام الهزيمة وتخيلات الانهيار المحتوم.
أحد المؤلفين نشر كتاباً يعلن فيه بشكل صريح أن اليابان هي القوة الأعظم في العالم، وأن التنافس معها انتهى على أرض الواقع. انهالت بعدها المدائح على ثقافة اليابانيين ونظامهم السياسي والاقتصادي. اليابانيون يعملون بلا توقف، ويوفرون المال ولا يبذرونه كالأميركيين. لديهم نظام بيروقراطي أنجع، واقتصادهم أفضل في التصنيع، والعملية السياسية توافقية ولا تميل للاستقطاب الأيديولوجي. لحظة المجد الياباني شعّت مع صعود مؤشر سوق الأسهم الياباني نيكي عام 1989 إلى 39000 نقطة قبل أن ينهار بشكل سريع ليعلن توقف النمو وبداية ركود الاقتصاد الياباني إلى اليوم. العملاق الياباني الذي سيتسيّد العالم ويهزم الولايات المتحدة بالضربة القاضية أصبح حكاية من الماضي.
لكن القصة ذاتها تعود هذه الأيام مع الصين. التنبؤات والخيالات المختلقة هي ذاتها تعود مرة أخرى. يذكر أحد الكتاب أن الصين تخيف المخيلة الأميركية بسبب حجمها الكبير. الأميركيون الذين تبهرهم الأشياء الكبيرة من وجبة الهامبرغر كبيرة الحجم إلى السيارات الضخمة إلى المولات المبهرجة. الصين الضخمة اقتحمت العقل الأميركي من نقطة الضعف والانجذاب هذه.
ولكن الضخامة الصينية المخيفة تخبئ داخلها الكثير من العيوب الخطيرة. أولاً، النمو الصيني لا يمكن أن يستمر على هذه الوتيرة للأبد، بل سيصاب بالتباطؤ، وهذا بالفعل ما بدأ يحدث في الأعوام الأخيرة. من المهم عدم الخلط بين النمو السريع لدول صاعدة تبدأ من الصفر والوهم القائل إن ذلك لن يتوقف أو يتراجع في المستقبل. مع زيادة أجور العمال من المؤكد أن هذه القوة ستضعف. ثانياً، الصين عاجزة عن خلق سوق للاختراعات التقنية كما يحدث في الولايات المتحدة التي تقود العالم في هذا المجال، والدليل على ذلك شركات مثل غوغل وآبل تقع في السيليكون فالي وليست في بكين. ثالثاً، التغيرات الديموغرافية لن تكون في صالحها. مع حلول عام 2035 ستكون النسبة الأكبر من الشعب الصيني فوق عمر الـ65. رابعاً، الولايات المتحدة تجتذب عدداً أكبر من المهاجرين، من بينهم الصينيون أنفسهم الذين يقررون العيش فيها. هذا يعني نسبة أكبر من الشباب، ومزيداً من الطاقة والأفكار الخلاقة. خامساً، التعليم الأميركي متفوق بمراحل على التعليم في الصين. من بين الجامعات العشرين الأقوى في العالم هناك سبع عشرة جامعة أميركية. الصينيون يبعثون أولادهم للدراسة في الجامعات الأميركية القوية، ويقرر ما نسبته 92 بالمئة ممن يحصلون على شهادة الدكتوراه في الهندسة والعلوم المكوث فيها لمدة تقارب الخمسة أعوام. سادساً، القوة العسكرية الأميركية لا تقارن بالقوة العسكرية الصينية. في الوقت الذي تصرف فيه الولايات المتحدة على تسليحها العسكري ما يقارب 600 مليار دولار سنوياً، تخصص الصين 146 ملياراً فقط.
لكل هذه الأسباب فإن الحديث عن تجاوز الصين للولايات المتحدة هو أمر غير واقعي، ولكن مجرد موضة تتكرر كل مرة. الجديد بعد روسيا واليابان والصين هو ترمب، ولكنها الأسطورة القديمة نفسها تنبعث من جديد قبل أن تنتهي إلى لا شيء. ولكن الوهم أقوى في بعض الأحيان من الحقيقة، وسيظل البعض يردد السؤال نفسه: في أي يوم ستنهار أميركا؟!.