
هل أصبحت السياسة في موريتانيا كالفلسفة على عهد سقراط والمدرسة السوفسطائية حين كان رفض الفلسفة هو فلسفة أخطر من الفلسفة الأولى المألوفة وتلكم هي الحال هنا في موريتانيا، فإما أن تكون مع النظام أو تكون معارضا أو مضافا للاسلام بالتبعية ومهما أبتعدت عن هذه الموجة الصاخبة فإنك ستظل تموج بين الحظر والهوان حتى تنفعل عندها يتم تصنيفك في تنظيم جديد لم يخطر لك على بال. وانطلاقا من هذه الدوائر الصغيرة التي تجمع أطراف التناقضات يتم تصنيف جميع الأحداث الطارئة حسب مصالح هذه المنظومة السياسية و الفكرية التي تملأ الساحة، ومن النادر أن تصادف من يقبل النظر إلى واقعة من الوقائع بعيدا عن هذه النظارات التي تحول بينها المصالح مع الحقيقة.
وحين نقرّب الصورة أكثر ونسقطها على إحدى وقائع الحاضر فسيولد لدينا من وجهات النظر المتناقضة والمتباينة ما يقف دونه الحد والاحصاء، ودعك من القيل والقال، والترويج للقضايا الخاصة والمصالح الضّيقة، فتلك بحار لا تخاض بسلام.
وحين نعود لأرض العامة ونجالس الشارع في براءته الفطرية و انفعاله الصادق نكاد نجزم أن هناك أمر جلل ، وحين نستمع لحديث القمة ونشاهد الأغلفة التي تلف فيها أخطر الإشاعات نكاد أيضا نجزم أن هناك تفاصيل مفقودة أو أننا نتيه عن وعي ونجحد واقعا بكل قبول .
إنك ستكتشف العجب العجاب حين تتابع الطريق التي يسلكها الحدث في سيره من القمة إلى القاع ومن القاع إلى القمة وكيف يتغير لونه وطعمه وريحه قبل أن يأخذ حقيقته الأخيرة ويصلح للاعلام العام، ويضاف إلى رفوف القضايا المغيبة والتي لا تصلها حبال الصيد ولا نبال الكمين ولا عين الفطن.
على مشرفة من "حادثة تيارت" يكذب الناظر بصره حين يحاول إزاحة الضباب الكثيف الذي يغطي دائرة الحدث، فترى العين شيئا في أول الطريق وتسمع الأذن نقيضه في منتصف الطريق، وتزداد الحماسة للاقدام نحو الحقيقة عند كل خطوة نقطعها إلى الأمام، في حين يرشدك العقل وتدعوك النباهة لطريق آخر به التريث والصمت والاكتفاء في الإستنكار بأضعف الإيمان استنكار يقبله المرأ لنفسه منجاة ويكرهه الآخر ويعتبره جبنا وقصورا في الرؤية، لكن الحقيقة أننا اليوم كمن يحاول الصمود في مزلق يحيل لآخرأعمق منه، وأبعد من العودة لجادة الحياة.
هي موجة عاتية من الكر والفر جعل منها كل طرف سياسي وجهة لمحاصرة الآخر وتضييق الخناق عليه في أجواء من التعتيم والحذر للخروج من دائرة السوء ببراءة الذئب من دم يوسف، وبعد جملة من الصراعات والمناوشات العنيفة بين الأهداف المتناقضة والمصالح المتضاربة في ظلال الحدث ، وبعد فشل في العثور على المسيئ والقصور عن تحديد النية الخفية لصاحب الفعلة النكراء ـ إن كانت هناك فعلة ـ تلك الفعلة التي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وعزاها الانسان للحيوان إنه كان ظلوما جهولا، أصبح من الملحّ اليوم أن نوضح حقيقة تطفو على السمع والبصر ويأباها التوجه السياسي والمصلحة الفردية لكل موريتاني، وهي أن جميع القضايا التي تولد على أرضنا تأخذ غطاء سياسيا قبل أن تنزع عنها جلد المشيمة ولا تكاد تجد قضية مثيرة للجدل إلاّ ويصاحبها سيل من الشائعات والاتهامات المؤسسة لأهداف وأغراض تناقض ما يصل للعامة من أخبار القضية أو الحدث.
ولن تدرك من حقيقة القضية سوى حيرة تلزمك برأي لا تملك القدرة على البوح به فإما أن تسير مع الركب وتسكت عن ما تعرف وما تشعر وينالك رضى الاغلبية وتكون أديت واجبك كفرد من المجتمع، وإما أن تحاول التغريد خارج المنطقة الحرة فتنالك أوصاف مشينة وألقاب صنعت في ظلام الحقد والانتقام والجهل المركب ، وتعود بخفي حنين وحظك من البحث الافلاس والذم.
وخلاصة المحاولة أن قضية تمزيق المصحف الشريف ليست بدعا على غيرها من النكبات التي حيرت وما زالت تحير الشارع الموريتاني، وليست كذلك ببعيدة من غيرها من القضايا الشائكة التي فرح بها الجمعان مثل ما حزنا فهي حج وتجارة وفرصة لبعض الساسة والمفكرين لتمديد عرضهم الكاسد وهي كذلك بينة ودليل يستخدم بحديه لتهمة الآخر ورميه بداهية جديدة ظنا منه أن ذلك يبعده عن دائرة السوء.
ديدي نجيب