البقرة الباكية!

عندما وزعت أوراق الامتحان على التلاميذ، طلبت منهم أن يعيدوها لي بعد تفحصها، وأعطيتهم عدة دقائق بغية تقديم الطعون، أحاول دائما أن أكون عادلا، وأن أتعامل مع فحوى الورقة وحسب، رغم أن تطبيق العدالة بمنأى عن تأثير العواطف الجانبية؛ من أصعب الأشياء في هذه الحياة. أحيانا تكون فترة الطعون المقدمة؛ فرصة ذهبية لهم؛ يبدعون خلالها في فن ترميم الأخطاء، فيسدون تلك الفراغات الضيقة بإجابات كانت غائبة، ويقومون إعوجاج المستقيمات وانبعاج الدائرة وضمور المثلث، ثم يسكبون ألوان التمسكن على قسماتهم عند تقديم الطعون، فتبدو نظراتهم موغلة في الأسى كألوان الشروق في مداءات الأوطان المنكوبة بالحروب، لكن مع الاستجواب المكثف وتحليل لون الحبر وتعرجاته في مختبر الدماغ، سرعان ما تنكشف حيلهم، مع أنني أحيانا أحكم لصالحهم، عندما لا أجد دليلا دامغا لتفنيد حججهم، إن من أصعب الأشياء هو النطق بالحكم. منذ بدأت تصحيح أوراق الامتحان وما يصاحبها من تركيز كبير، بدأت استوعب إكراهات تطبيق العدالة وعظم الأمانة، في الحديث الشريف: " من غشنا فليس منا، وفي الآية الكريمة: (( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )). \

أخشى أن أجد نفسي يوم القيامة عالقا على الصراط بسبب 0.25، أعطيتها بغير حق أو نزعتها بغير حق، فلا يوجد شيء صغير وتافه إذا ما تعلق الأمر بحقوق الناس حتى لو كان ربع نقطة في مادة الرياضيات. زميلي في السكن والقطاع مدرس في الابتدائية سأل طلابه في الامتحان النصفي المنصرم عن دور الشرطة القضائية؟كتب له أحد التلاميذ داخل ورقة الإجابة: " دور الشرطة القضائية هو القضاء على القوانيين". إجابة مأساوية بيد أنها لا تخلو من الطرافة والتوفيق والواقعية...نعود للدرس:أمرت التلاميذ بإرجاع أوراقهم كلها، وأخالني سأزيد من وتيرة الاختبارات الكتابية في الفصل الأخير؛ حتى أجمع أكبر قدر من الأوراق، فالأوراق علف جيد للموشي في هذه الأشهر العجاف. وربما اشتري نسخا مطبوعة من الدواويين والدساتير والقصص واقتني مواثيق الأحزاب وهيئات المجتمع المدني، وأجمع تلك القوائم الانتخابية المكدسة في أروقة اللجنة المستقلة للانتخابات والمليئة بأصوات الشعب، وأبعثها لبقرتنا؛ حفيدة " أم الدوامع " الكبرى، التي رحلت نهاية التسعينيات..

إنها البقرة التي وفرت الكالسيوم لعظامي طيلة الطفولة وساعدتها في النمو، حينما كان تناول " سيرلاك والياورو " ترفا فكريا محضا مثل حوار المعارضة والموالاة تحت الطاولة..لست أنسى مطلقا " أم دوامع " الحمراء، ذات العينين الواسعتين المحفوفتين بالسواد، وقرونها الشبيهة بهلال شعبان، لست أنسى رغوتها البيضاء في صباحات أيلول المضمخة برائحة المطر، وهي تتدفق من جنبات التاديت المسخنة، إنني مدين لذريتها بالكثير..

إن البقر في الوطن جد حزين، والحكومة أصبحت تنتظر سماع رعود يوليو لتسمع خوار البقر الناجي والمنتشي ساعتها من رائحة العشب المنقوع في الماء، ويبدو أنها أيضا أي الحكومة؛ لا تقرأ سورة يوسف عند كل انعقاد لها يوم الخميس، فلو كانت تقرأها بتدبر عند كل انعقاد لها، لكانت كل مخازنها الآن ممتلئة بالقمح..لا أحب أبدا جعل أوراق تلاميذي طعاما للمواشي، لكنها قد تنقذ بقرة ما، يعيش منها مواطن ما...هنا مدينة تيشيت. والبلح في النخل أخذ يتبلور، والصيف طرق أبواب الظهيرة، وصار يطرد الناس ليلا من أعماق البيوت. وقمر شعبان يخطو بتسارع جهة رمضان، يطلبه حثيثا.

فاللهم بلغنا رمضان، وأسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم دمر المفسدين، والمرتشيين، والكذابيين ولصوص المال العام في كل إدارة عمومية، اللهم شتت شمل حساباتهم في البنوك الأجنبية، اللهم زلزل منازلهم المشيدة من المال العام، اللهم عليك بمزوري البضائع والأدوية، اللهم سرطن خلاياهم الدماغية، اللهم أقضي ديوننا عند البنك الدولي والدول المانحة، اللهم من أراد حوارا لا ييبتغي منه ورائه مصلحة الوطن، فأصرفه عن المشهد السياسي وأحرمه من دخول قبة البرلمان.الساعة 11 صباحا و 15 دقائق، الصورة من تيشيت وقد لا تخدم النص، فهم هنا يعتمدون على الأبل بدل البقر، وإن كانت السماء هي منبع المطر والرحمة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

Khaled Elvadhel

جمعة, 20/04/2018 - 11:52

          ​