يقال إن الرئيس الأميركي رونالد ريغان لم يكن يحب الحديث عن السياسة الخارجية، ويفضل بدلاً عنها ترديد الطرائف وقصص جمعته بزوجته نانسي. ولكن مع هذا فقد غيرت إدارته وجه العالم الذي نعرفه اليوم، وكتب كثيراً عن "عقيدة ريغان" السياسية.
ينطبق الأمر تقريباً على ترمب الذي يقضي طويلاً في التغريد ومصارعة وسائل الإعلام. ورغم هذا الضجيج المزعج فإن ملامح من عقيدة ترمب في السياسة الخارجية بدأت بالتشكل بصورة أوضح من السابق (خصوصاً بعد إبعاد تيلرسون وماكماستر). لنتعرف عليها علينا أن نشير إلى القراءات الخاطئة السابقة، وكذلك نقارنها بعقيدة سلفيه أوباما وبوش الابن.
بعد خطاب ترمب في يوم التنصيب أصيب الكثيرون بالذعر، وأيقنوا أنهم دخلوا عصر أميركا الانعزالية والشعبوية. ترمب هو موسيليني الأميركي والوقت سيثبت ذلك. وقد رددوا بأنه خطاب مخيف يحمل نبرة مرعبة ليوم القيامة و"نهاية أميركا التي نعرفها"، كما أشار أحد الكتاب. وقد هلل كارهو الولايات المتحدة بأن ترمب هو القائد الذي سيرسل المركب إلى قاع المحيط. قراءة عاطفية خاطئة، تجاهلت أن فريقه في السياسة الخارجية شخصيات معروفة بصقوريتها ونزعتها الدولية. لم يمر وقت طويل حتى ثبت العكس. الإدارة المتهمة بالانعزالية ضربت الأسد مرتين، وحاربت داعش، وألغت الاتفاق النووي، وتستعد لعقد صفقة تاريخية مع كوريا الشمالية.
ولو قارنا عقيدة ترمب الخارجية بسلفيه سنجد فروقات كبيرة وواضحة. عقيدة بوش كانت تؤمن بفكرة تغيير الأنظمة وتصدير الديمقراطية وبناء الأمم. وكل هذه قيم لا تؤمن بها الإدارة الحالية. وفي الواقع راجت شائعة تحولت مع الوقت إلى حقيقة، وهي أن المحافظين الجدد الذين تشكلت عقيدتهم السياسية في الأربعينات من القرن الماضي، يؤمنون بتغيير الأنظمة السياسية، ولكنهم في الواقع ضدها، لإيمانهم أن التدخل في الدول وهندستها اجتماعياً بيد خارجية سيفضي إلى وضع أسوأ من السابق. وقد تحققت رؤيتهم كما شهدنا في العراق، فقد انسحبت أميركا بعد تجربة قاسية، ولم تبن دولة كانت تريد أن تخلق منها نموذجاً ألمانياً للمنطقة كلها. الاعتقاد السائد حينها كان أن الديمقراطية هي الدواء الشافي لمرض المنطقة المزمن. الآن قلة فقط يؤمنون أن هذا الحل ليس كراهية في الديمقراطية، ولكن بسبب غياب تقاليد الحرية وهشاشة الدول وصعود الجماعات المتطرفة وخلافة داعش، الأمر الذي يجعل التجربة بحد ذاتها كارثية. عقيدة ترمب بعيدة تماماً عن الرومانسيات البوشية، ولم يذكر الديمقراطية في خطاباته إلا مرات معدودة.
ولكن هذه العقيدة تظل ناقصة إذا لم نقارنها أيضاً بعقيدة الرئيس أوباما. رغم كل خطاباته القوية عن مصير العالم والحرية، وقد نشر كتاباً مشهوراً بعنوان "جرأة الأمل" إلا أن الرئيس أوباما كان انسحابياً وانعزالياً إلى درجة كبيرة جداً. وحتى الاتفاق النووي الإيراني في عهده كان الهدف منه ليس التدخل ولكن بغرض الانسحاب أكثر، لقناعته أن الاتفاق سيهذب السلوك الإيراني، وبالتالي ستخلو المنطقة من الأزمات، ولن نسمع دعوات تطالب القوة الأميركية بالتدخل لحل النزاعات. لم تصدق رؤية أوباما، ولكن عقيدته كانت ثابتة وعميقة، وامتنع عن التدخل رغم مئات آلاف القتلى من الشعب السوري. ماذا عن رؤية أوباما للنظام الدولي الليبرالي الذي تحرسه القوة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية عقب انهيار قوة بريطانيا العظمى؟ لم يكن أوباما من المؤمنين بالفكرة، وفضل عليها فكرة المحاور العالمية التي تحفظ للعالم توازنه واستقراره. لماذا لا يكون هناك أكثر من شرطي واحد أو مركز بوليس للعالم؟
عقيدة ترمب الخارجية تختلف بشكل كبير. انتقده أحد الكتاب بالقول لكي تعرف عقيدة ترمب تذكر كل ما يؤمن به أوباما وفكر بالعكس تماماً. وهذا صحيح، لأن عقيدة ترمب وفريقه بالسياسة الخارجية ضد مبدأ التدخل وتغيير الأنظمة المارقة (عقيدة بوش) ولكنه ضد مكافأتها بل مع معاقبتها وخنقها، وقد شهدنا ذلك بوضوح مع النظام الإيراني الذي سيواجه عقوبات اقتصادية قاسية ستكون لها تداعيات كبيرة. في 2009 لم يقل أوباما كلمة واحدة دعماً للثورة الخضراء، ولكن ترمب غرد ودعم الاحتجاجات الأخيرة الأقل زخماً، لأن إدارته تحرض وتدعم وتترك التغيير للإيرانيين أنفسهم. ماذا عن حماية النظام الدولي الذي أهملته إدارة أوباما؟ عقيدة ترمب على العكس، وفي هذا السياق تأتي محاصرة إيران والحوار القادم مع كوريا الشمالية ومعاقبة الأسد. في خطابه الأول والثاني لضرب الأسد كرر مقولة إن بعض هذه الأفعال لا يمكن السكوت عنها، وبكلام سياسي فإن أي خرق لقوانين النظام الدولي سيواجه بحسم. خليط من الأخلاقية التي تدافع عن الضعفاء والواقعية التي تدافع عن استقرار النظام الدولي بدون الانجراف للإطاحة بأنظمة قد تنتج عنها مشاكل أكبر. وخلاف رئيسي آخر هو إعادة إدارة ترمب التحالف الوثيق مع الحلفاء التقليديين في المنطقة، بالطبع إذا تجاهلنا خطاباته المحلية النارية التي تهدف إلى إبقاء الزخم بقاعدته الانتخابية. أوباما واجه الإرهابيين على طريقة جيمس بوند من خلال تصيدهم بطائرات الدرونز، ولكنه بذات الوقت لم يمانع بصعود جماعة الإخوان المسلمين التي تشكل البؤرة العميقة للتطرف والإرهاب. وفي إدارة ترمب أعضاء مثل جون بولتون يدركون هذه الحقيقة، وقد قال مرة إن الإخوان هم الوجه المبتسم للإرهاب.
ترمب لم يصبح موسيليني الأميركي، ولكن عقيدته الخارجية رغم عيوبها أثبتت أنها أكثر واقعية من بوش، وأكثر شجاعة من أوباما.