إنتقاض مبدأ الثورة عقلا

من البدهيات والمسلمات العقلية أنّ حالة الفوضى لاتُنتِج حالة استقامة أبدا فالفوضى حالة عشوائية والاستقامة حالة منتظمة متسقة و خلاف الفوضى تماما
لذلك فالفطرة السليمة والدين الصحيح يرفضان الفوضى فمن المعقولات والمدركات بداهة
أنّ الإستقامة لا تُحَصّلُ ولا تأتي من الفوضى،
كما أنّه لا يُتَحَصّل ولا يأتي من الإستقامة فوضى؛ فإنّ هذا الأمر من سنن الله فالباطل لا يقيم عدلا ولا يوصل اليه ابدا لان الفوضى ظلم وتعدي والاستقامة عدل و إنصاف فلا يجتمعان.
كذلك العدل لا يقيم ظلما أبداً ولا ينتجه لأنّ هذا محال،
و عندما ننظر في الثورة بعين الإنصاف و التعقّل و نحلل عناصر تكوينها نجد أنّها
وكما يسميها أصحابها و مُنظِّروها بأنّها فوضى خلّاقة.
أي أنّك في الحقيقة لا تدري أين تذهب نتائجها وهذا بالإتفاق ضياع،
••فيَحضُرُ أمامنا هنا في الثورة ثلاث عناصر  رئيسية تكوينية
الأول- عشوائية التحرك أو كما يحلو لمؤيدي الثورات تسميته بالإندفاع، مما ينتج عنه العنصر
الثاني- وهي عشوائية النتائج كما هو اعتراف من يجعل الثورة مبدأ ويدافع عنها كما سيأتي في أشهر تعاريفها و أوضحها،
والثالث- هو الضياع وهو افتقاد الثائرين للقيادة الحقيقية وللمشروع فمن حيث القيادة فلايوجد قائد مباشر ابدا و إنما هم محرضين فكريين أو إعلاميين  و من حيث المشروع فإنما هي شعارات ليس إلّا و إنّما كان إندفاعهم بناء على تهييج من المغرضين للغرائز والدوافع التي بُنيت عليها ردّات فعل غير منضبطة أتى بعدها زيادة تحفيز  من نفس هؤلاء المغرضين ودفع إلى الفوضى بسبب حالة متوهمة صنعها للثائرين من حفزهم ودفعهم و أزّهم إلى الثورة أزاً فهيئ الظروف المحيطة ليتشكل عندهم التحرك و الإندفاع وذلك بفعل أمرين:-
الأوّل- كان باستغلال بعض الحوادث سواء كانت حقيقة أو متوهمة أي مكذوبة
والثاني تفسير وتوجيه هذه الحوادث قسرا التفسير و الوجهة التي تكون سببا في إشعال الثورة وذلك بتلبيس الأمور
••فمن تعريفاتهم الإصطلاحية المشهورة للثورة،
أنّ الثورة تعني الخروج عن الوضع الرّاهن وتغييره - سواء إلى وضعٍ أفضل أو أسوأ - باندفاعٍ يحرّكه عدم الرّضا، والتطلّع إلى الأفضل أو حتّى الغضب.
فيتضح من هذا التعريف حضور العناصر المكونة للثّورة وهي
أوّلا-العشوائية والإندفاع في التحرك.
الثاني- العشوائية في النتائج. الثالث- الاعتماد على الغرائز والعواطف وغياب للقيادة و للمشروع الذي لايمكن لأي عمل انساني سويّ ان يقوم الا بناء عليهما وعلى مقدمات المشروع ونتائجه و إلّا فالأمر مرهون للضياع.
فالثائرون إذا رآموا من الثورة عدلا فإن ذلك يستحيل لأن العدل استقامة والثورة فوضى ولا يُقِيمُ باطلٌ حقا ابدا.
نعم ربما تُزيل الثورة ظلما ما؛
لأنّه مثل جنسها فالظلم فوضى و كُلُّ باطلٍ إنما هو عبث وفوضى و هذه من صور ضرب الله الباطل بعضه ببعض فيزيل بعضه بعضا أو يحل واحد مكان الآخر، ولكن عمل الظلم و مبدأ الظلم لا يقيم عمل العدلا ولا مبدأ العدل بدلاً من الظلم الذي أُزِيل فالثورة هنا تأتي بشيئ من جنسها أي بفوضى وظلم لكن من نوع آخر و إن لبس مسوح العدل فكل الحالات بعد الفوضى المتحركة لإزالة فوضى مثلها انكشفت وتبين أنّها ظلم في حقيقتها كما هي الثورة الفرنسية التي ألغت الملكية وتحولت بعد ذلك إلى استبدادية عسكريّة باعتراف أهلها فلا زالوا على نفس العلّة.
فالفوضى كما أسلفنا لا تقيم عدلا و استقامة أبدا لأن هذا مخالف لسَُنَنِ الله.
قال الله تعالى (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)
••لقد خرج مبدأ الثورة نتيجة ردة فعل بشرية غير متوازنة بسبب تحفيز من عناصر و تيارات معارضة تُوهِمُ الناس بوجود حالة خطرة عليهم و أنّ زوال هذه الحالة الخطرة لا يكون إلا بالثورة حصراً
••إذاً الثورة ليست حدثا سببيا تسلسليا تلقائي سويّ يرجع إلى سيرٍ و تفاعل طبيعي بين مُكوّنات المجتمع كضرورة ظهور القيادة في أي مجتمع ما ظهورا تلقائيا سببيا لحالة التجمع وذلك  في حالة ان هذا المجتمع له هدف، أو حتى كسببية إطفاء الماء النار،
بل الثورة عمل مصطنع مُختلق يختبئ خلف تحريك الغرائز والفِطر
فكثير ما يقع الظلم من الحكام ولا تكون ثورة وكثيرا لا يقع الظلم وتكون ثورة والشواهد التاريخية كثيرة جداً، وهذا ملحظ قوي يُخِلُّ بوجود الثورة علميا وعمليا على الوجه السويٌّ الحقيقي الصحيح ، فليست ظاهرة اجتماعية طبيعية تلقائية وهذا نقض صريح لها.
فحدوث الثورة ليس بسبب الظلم كما يصورها مفتعلو الثورات و بالتالي فالثورة ليست سُنّة ماضية ولا عمل إنساني تلقائي فطري سويّ سليم فهو كما ورد في تعريفها خروج على الوضع الراهن ولم يقل على وضع ظالم أو عادل
وهذا من أعظم الإثباتات على أنّ الثورة ظاهرة مَرَضِيّة مصطنعة، والظاهرة المرضية المصطنعة لا يمكن اعتبارها مبدأ يعتمد عليه البته.
••أيضا مما يدل على انتقاض إتخاذ الثورة مبدأً أنّ محاولة تأصيله بشكله الآني وخصوصا مابعد الثورة الفرنسية بالتحديد و الدفاع عنه وإضفاء صورة القانونية و الشرعية عليه كان بعد حدوثه ووقوعه لا قبل حدوثه لأنّه قبل حدوثه في فرنسا لا يوجد له توصيف حقيقي و تأصيل ينبع من ذات الثورة على أساس أنّها مبدأ صحيح بل لم يكن هناك طرح ثقافي عن مبدأ ثوري ماثل إلّا بعد الثورة الفرنسية والسبب واضح وهو أنّه لا توجد حضارة أو دين أو ثقافة تدعم المبدأ الثوري و إنما اتت محاولة اضفاء الشرعية على الثورة وجعلها مبدأ على يدا ارباب المذهب الفردي وذلك لسببين:-
*الأول- التفلت من المجتمع والدولة في التوقيت الذي يرونه مناسب لتحقيق الفردية عملياً على المستوى التكوين البشري على الأرض.
*الثاني- تغطية النقص والانتقاض في المذهب الفردي بإثارة الفوضى و الضوضاء ليمرروا ما يريدون من افكار.
وهذه نقطة يجب الوقوف عليها في ما يسمى مبدأ الثورة وهي تُشكل نقطة ضعف واضحة ناقضة للمبدأ الثوري ولأيّ مبدأ غير سويّ بل هي من أهمّ علامات المبدأ الممسوخ،
و ما المحاولات التأصيلية قبل حدوث الثورة إلّا عملية شرعنة بائسة للتقليل من سلطة القيادة التي هي ظاهرة طبيعية صحية
وليس تأصيل لذات ومذهب الثورة و إنّما جائت محاولة التأصيل والدفاع عنها ورفع شعارها بعد حدوثها في فرنسا عام ١٧٨٩م
 وهذا دليل على ان جعل الثورة مبدأً وفكرا وإرث تنموي حضاري لا يصح علميا ولا عمليا ابدا و إنما فهو اقحامٌ على العلم والثقافة والحضارة الصحيحة السويّة وافساد لمفهوم التنمية و إنحراف بها الى التحزب ثم التوقف بعد ذلك.

•• ومما ينقض الثورة عقلا بجعلها مبدأ وفكرا أننا نجد أنّه من البدهيات أنّ السعي لطلب الأحسن في الحاله الحياتية عموما فطرة فُطِر الإنسان عليها سواء بتحسينها أو المحافظة عليها،
و بما أنّ المذهب الفردي يعمل على استغلال الغرائز البشرية وردود فعلها خصوصا ماكان منها تابعا لرغباته المادية ويتجلى هذا  في الثورة بشكل قوي،
فنجد مثلا أنّ طلب الفرد أو المجتمع عموما للحياة الرغيدة هدف لكن هذا الهدف له عدة طرق فمن هذه الطرق ماهو سوي موافق للفطرة و لهدي الله (فإما يأتينكم مني هدى) كالعمل الحلال الذي ليس فيه ظلم ولا تعدي
ومن هذه الطرق ماهو غير سويّ و محرم كأعمال النصب والاحتيال والسرقة.
فعلى سبيل التأصيل في مثالنا هذا فإن السرقة أو أعمال النصب والاحتيال أعمال غير سوية فإذا انتشرت في المجتمع وصارت ظاهرة فإنّها تتوجه في سيرها نحو العموم للإضرار بهم أكثر من سيرها نحو الخصوص في قصد الإضرار بهم.  
لذلك فإن من أهم صفات الطرق و السُبُلِ غير السويّة والمبادئ الباطلة هو اعتمادها في بناء نفسها على ضرب أُسس المجتمع
و تعمّد افتعال الفوضى لتضعف أُسس المجتمع ولتملي عليه ماتريد بعد إحداث الفوضى وهذا ما يحدث من الثورة حال اندلاعها
وهذا من شديد مكر المذهب الفردي الإبليسي،
إذاً نخلص هنا إلى أنّ الثورة من الأعمال و السُبُلِ غير السوية التي يكون ظاهر هدفها تحسين الحال و هي في حقيقتها ضرب لأُسس المجتمع و إحداث للفوضى ثم بعد حدوثها يأتي أربابها فيملون على المجتمع رؤآهم و سياساتهم و أيّ اعتراض يحدث ضدهم بعد ثورتهم فإنهم لا يقبلونه على أنّه مقدمات لثورة أخرى مقدسة على أساس أنّ الثورة عمل إنساني طبيعي كلا بل إنّهم يصمون هذا الإعتراض بالخيانة بحجة أنّه ضد الثورة فصارت الثورة التي صنعوها ونحتوها شيئ مقدس لا يمكن أن يعترضه أي شخص أو تيّار فصارت الثورة بمثابة الصنم
ومفتعلوها بمثابة السدنة لهذا الصنم الذي لا يُكلّم أحد غيرهم ويعطيهم الحق في التشريع و التقنين، وهذا مثلب آخر  ينقض كون الثورة عملا مستقيما صحيحا وذلك لأن الثورة لا تملك فكراً ذاتيا يُفصِح عن كنهها الذي يناسب الدعاية والتطبيل الذي نسمعه عنها ففكرها لا ينبع منها أبدا بل من سدنتها فكل ثورة لا يمكن أن تتجانس مع غيرها من الثورات الأخرى أبدا، بل يتنافر بعضها عن البعض ويتناقض كعباد الأصنام فكل قبيلة لها صنم مستقل عن صنم القبيلة الآخر له أسطورته و فلسفته وخزعبلاته الخاصة به فلا قاسم مشترك بينهم إلّا العبث والبطلان و كذلك الثورات أيضا لا يوجد قاسم مشترك بينها إلا كونها فوضى فقط أي باطل كأيّ باطل.
••وبالمختصر الثورة لا يستفيد منها الثائرون ولن يستفيدوا لأنّها نارٌ و هم حطبها ولن يستفيد منها إلّا من هم ورائها و ليسوا من حطبها وهدفهم ليس هو مراد الثائرين.
•• و من وجوه إنتقاض الثورة أيضاً أنّ اعتمادها على التحرك بشكل فوضوي-وهذه هي طبيعتها-
يُوجِد فيها عيباً يؤدي بها إلى عدم صلاحيتها لتكون طريقة سوية لإفادة المجتمع وهذا العيب هو سهولة اختراقها من أيّ شخص أو تيّار أو كتلة وذلك لافتقادها الهرمية والقيادة فلا يمكن عقلا ان تكون هناك قيادة في الفوضى
فهي تغيير إنفجاري غير ممنهج، ومهما حاول مُنَظِّروها تحسينها وتعديلها فعنصر العشوائية موجود في تركيبتها فلا تجتمع قيادة وفوضى عند العقلاء أبداً.
قال الشاعر :-
لايصلح الناس فوضى لاسراة لهم
               ولا سُراة إذا جهالهم سادوا
ومعنى سراة أي قادة
••و كذلك من صور انتقاض الثورة على اعتبارها عمل اجتماعي و مبدأ أنّه و على فرض قيام الثورة على حالة ظلم حقيقية فإنّ قصد إزالة الشيئ لعلة فيه بشيئ من نفس جنسه ويحمل نفس العلّة رجوع إلى نقيض القصد كمن يغسل الدم بالدم لإزالة الدم أو من يزيل النجاسة بالنجاسة فالثورة في أحسن أحوالها ظلم يزيل ظلم وفوضى تزيل فوضى، فما بالك إذا كانت الثورة على ظلم مُتَوهّم أو حالة قد فُسّرت تفسيرا خاطئ و هي في أصلها حق و لكن أُوردت على وجه كاذب باطل! لاشك أنّ هذا الأمر يكشف عن اصطناعيتها لا تلقائيتها.
••إنّ الثورة من اسمها ثورة و ثوران كالانفجار الذي لا يُفَرِّق بين الموجودات حوله وهذا مثلب وناقض قوي في الثورة وعيب جليّ في عقل من اعتنقها وضياع لمن اتخذها مبدأ له الا وهو الإتجاه الفردي الليبرالي
فكيف تجعل الفو ضى مركبك إلّا لأنّك لا تملك فكرا  ذا أُسس صحيحة فتغطي ذلك بالفوضى والضوضاء والثورة، عندها سيكون فكرك الثوري وبالا على مجتمعك،
ورحم الله ابن تيمية عندما قال
(ماخرج قوم على إمامهم إلّا كان الذي أفسدوه أكثر مما راموه من الإصلاح) فهذه نتيجة توصل لها ابن تيمية بالدليل الشرعي والحسي و هو الإستقراء التاريخي و هذه الطريقة من أقوى النتائج واثبتها حجة.
••نخلص الى ان الثورة عمل بشري وظاهرة مرضية تعتري الجموع
لخلل يصيبها في كيفية رفع الظلم
ودفع الخلل وذلك بسبب الكذب و اختلاق الحوادث أو تفسيرها تفسيرا مغرضا غير حقيقي.ا.هـ
ويليه المقال الآخر وهو نقض مبدأ الثورة شرعاً.
نخلص مما سبق إلى أنّ الثورة منتقضة من عدة وجوه
أوّلها- أنّ الثورة فوضى وظلم والمطلوب الاستقامة والعدل
ولا يُنتِج احدهما الآخر فربما أزالت الثورة ظلما من باب إزالة الظلم بالظلم. 
ثانيها- أنّ  الثورة ليست حدثا اجتماعي سويّ تلقائي يحدث بالسببية بل هي نتيجة لأحداث مصطنعة فليست نتيجة للظلم لأنّ الظلم يحدث في دول ولا تحدث ثورة وتحدث الثورة ولا يحدث ظلم قبلها وله في التاريخ شواهد.
ثالثها- أنّ عناصر تركيبها تحمل عوامل هدمها وهي العشوائية في الاندفاع و فقدان القيادة والمشروع.
رابعها- أنّ وجود المبدأ العلمي والعملي يسبق التأصيل له لكن في الثورة انعكست الآية فلم تأتي محاولة التأصيل ا إلّا بعد حدوثها في فرنسا وهذا يدل على ان جعلها مبدأ وفكرا بنّاءً  ومفيد أمر مصطنع و إقحام على العلوم. 
خامسها- أنّ أيّ ثورة لا تجمعها بالاخرى إلّا الفوضى فليس هناك قواسم علمية مشتركة أبدا وهذه الحالة غاية في الضياع.
سادسها- أنّ الثورة لا تفرق بين الموجودات الاجتماعية والحضارية حال ثورانها مما يدل عماها فلا تصلح أن تكون مبدأً كما أنّ هذا انتقاضها على نفسها وتعطيل للتنمية
سابعها- المبدأ السوي الحق ينفع صاحبه أمّا الثورة فلا تنفع من يقومون بها فهم حطب لها.
ثامنها- أنّ الثورة لا تمتلك قيادة
فيسهل هنا اختراقها وهذه نقطة ضعف شديدة ونقض لجعل الثورة مبدأ.
                  كتبه اخوكم
     عبدالله بن محمد الشبانات
       في يوم السبت الموافق
                 ١٤٩٣/١٢/٢٨هـ
 
 
أربعاء, 12/09/2018 - 13:06

          ​