منذ الأيام الأولى لحكمه، دخل الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز في صراع مع التيار الإسلامي في البلاد، وذلك بتوقيف الرئيس السابق لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية المحسوب عليهم محمد جميل منصور، بعيد اعتراضه على انقلاب السادس من أغشت 2008 الذي نفذه المجلس الأعلى للدولة والذي كان يرأسه الجنرال حينها محمد ولد عبد العزيز.
ما لبث ذلك النسق الذي بدأ به الرئيس عزيز سيادته للقصر الرمادي بيت الحكم في نواكشوط، أن خفت، وأخذ الدفء يتسرب شيئا فشيئا إلى العلاقة بين التيار ذي الخلفية الفكرية الإخوانية، وبين الرئيس القادم من المؤسسة العسكرية، وتحديدا كتيبة الحرس الرئاسي، فحمل الرئيس شعار الانفتاح على الجميع وإطلاق الحريات، وشق حزب الإسلاميين لنفسه طريقا بين المعارضة والولاء سماه المعارضة الناصحة، خاصة بعد توقيع الرئيس لاتفاق دكار.
ما هي إلا سنتان أو أقل، وينفجر فصل الربيع العربي، وتنتشر رياح التغيير كما يسميها أنصارها، وتجلجل رعودها على زين العابدين بن علي أن ارحل، فيرحل ويصيح مواطنوه أن قد “هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية.. بن علي هرب، بن علي هرب..”، وهنالك أبرق الشعب المصري وردد أهازيجه بأن “الشعب يريد إسقاط النظام”، وفعلا “قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية” وانتشى الشعب نشوة، جعلت الليبيين يخرجون ضد القذافي، فيحاول تطهير البلاد منهم “بيت بيت، دار دار، زنكه زنكه”، وحتى “شبر شبر”، لكنه في النهاية غادر السلطة وفارق الحياة الدنيا، كما خرجت درعا ومن بعدها كبريات حواضر الشام ضد بشار الأسد، وخرجت بلاد الأحقاف ضد صالح.
شكلت هذه البيئة مرتعا خصبا للمعارضة الموريتانية ومن جملتها الإسلاميون، لفتح صفحة عداء جديدة مع النظام المعارضة، فنادت على الرئيس ورفعت ضده شعارات الرحيل، فسخر منها في مهرجان شعبي مشهود بنواذيب بتسمية قادتها بـ”الثوار العجزة”، ثم أردف بضربة ثانية، ليلة فض نخبتهم من ساحة بن عباس عندما أعلنوا اعتصاما مفتوحا، مستخدما في فعلته تلك مياه المجاري، ففر صفوان عن هاتفه وقض نوم عكرمة، وأما الضربة القاضية التي سددها ولد عبد العزيز للمعارضة –ومن جملتها الإسلاميون- فهي مرور كل مظاهرات الرحيل دون خسائر في الأرواح، وتأزم الأوضاع في عدد من بلدان الربيع العربي؛ هنالك نال عزيز حضنا شعبيا، مكمن دفئه أن الموريتانيين غير مستعدين ولا مجهزين لدفع كلفة الرحيل من دمائهم ولا لمزيد من الدفع في اتجاه المجهول.
ومع وصول حديث الثورة في نواكشوط ومسارها إلى الطريق المسدود، قرر الإسلاميون أن يتقربوا إلى نظام ولد عبد العزيز زلفى، فشاركوا معه في الانتخابات التشريعية حين قاطعه الناس، لكن جملة من الأحداث التي يعتبرها البعض صدفة في ما لا يرى آخرون ببراءتها حيث تزامنت بمجملها مع أنشطة للمعارضة، كالإساءة للجناب النبوي الطاهر صلى الله عليهم وسلم، وحادثة العبث بالمصاحف الشهيرة والتي دفع أحد أبناء التيار الإسلامي حياته ثمنا لمشاركته في مظاهرة منددة بها؛ هذه الأحداث وغيرها أعادت التوتر إلى علاقة النظام بالإسلاميين، وجازاهم جزاء السينمار وأغلق أبرز جمعية محسوبة عليهم، ألا وهي جمعية المستقبل التي كان يتولى أمانتها العامة الرئيس الحالي لحزب تواصل ذي المرجعية الإخوانية محمد محمود ولد سيدي، فيما كان يتولى رئاستها يوم إغلاقها الشيخ محمد الحسن ولد الددو مفخرة موريتانيا عالميا والذي وصفت الحكومة مؤخرا المؤسسات التي يرأسها بأنها “الذراع العلمي لتواصل”.
كان ذلك بالأمس البعيد نسبيا، أي عام 2014، وخيم بعده الهدوء وأطبق الصمت ولم يتبع بإجراءات إضافية من النظام، ولا بخطوات تصعيدية من الإسلاميين، فهل ترى سيتكرر السيناريو، بعد تكرار ولد عبد العزيز ذات الاستهداف، واختياره ذات الشخص المستهدف في صولة 2014، أم أن الفارق العددي الموجود بين صولتي 2014 و2018، يقتضي أن القياس مختلف، وبالتالي فالنتائج لن تتطابق، وقادم العلاقة بين عزيز وإسلاميي موريتانيا مجهول، ففي المرة الأولى أغلق عزيز مؤسسة واحدة للددو، وأعاد إليه اليوم الصاع صاعين.
هناك مؤشران لقراءة قادم أيام التجاذب المتفتر بين الإسلاميين مع نظام الحكم منذ وصول الرئيس عزيز إليه، أولهما المؤشر السياسي، ويستشف منه أن الرئيس عزيز يريد استدراج الإسلاميين الذين تزعموا المعارضة في استحقاقات 2013 وأعادوا الكرة في استحقاق 2018 المنظمة مؤخرا، من أجل القبول بالمأمورية الثالثة، عن طريق تخفيف عزيز من إجراءاته مقابل خفض الإسلاميين من حدة خطابهم للنظام ولسياساته ومشاريعه التي ربما يخطط لها، ويطرح من هذه الأخيرة النظام البرلماني الذي بموجبه تحول سلطات الرئيس إلى رئيس الوزراء وبالتالي يواصل ولد عبد العزيز الحكم دون أن يخالف يمينه الدستورية، وقد نسب ولد عبد العزيز في أحد مؤتمراته الصحفية هذه الفكرة للإسلاميين، كما تطرح بشكل أضعف فكرة مؤتمر برلماني يلغي المواد المانعة لإعادة الترشح، وأيا يكن مشروع النظام، فإن قضية رغبة النظام في استمرار رأسه في الحكم مؤشر وارد لفهم طبيعة تحرش النظام بالإسلاميين وما وراءه، وهو ما يعني أن أزمة النظام مع الإسلاميين قد لا تتفاقم، إن لم يتم الاتفاق على تسوية توافقية لها، خاصة بعدما جنح فضيلة الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو، ومن قبله الناشط في التيار الإسلامي بموريتانيا محمد غلام ولد الحاج الشيخ إلى لغة الردود الهادئة على الحكومة الموريتانية ممثلة في الوزير الناطق باسمها محمد الأمين ولد الشيخ.
مؤشر آخر يفرض نفسه لفهم إجراءات السلطة مؤخرا ضد المؤسسات التعليمية المحسوبة على الإسلاميين، هو مؤشر أصداء نزاعات الخارج التي تتردد في نواكشوط وسبق أن عاد رجعها في أكثر من مرة، تضامنا مع السعودية أحيانا، وقطعا للعلاقات مع “الشقيقة” سابقا قطر، انسجاما مع مواقف السعودية والإمارات والصديق الشخصي للرئيس عزيز عبد الفتاح السيسي، ولقد بررت موريتانيا موقفها من قطر بنفس مبررات الدول الثلاث، وأكدت أن قطر تدعم الإرهاب، وتفصل خطابات الدول الثلاث المذكورة آنفا ما أجمله نظام ولد عبد العزيز من إرهاب قطر بأقوالها وأفعالها، حيث اعتبرت كلها أن الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وضيقت عليها، ويفرض المقام – إن صحت القراءة- على نظام ولد عبد العزيز أن يعمل بسياسة القطيعة مع الإخوان كما عمل بها مع دولة قطر بحجة دعم الإرهاب، ويعضد هذا الطرح ما ذهب إليه عزيز خلال الحملة الانتخابية من اتهام الإسلاميين بالتطرف، ثم مواصلته في نفس الخطاب بعد أن وضعت السياسة أوزارها، مما يخرج مجريات الأحداث عن السياق السياسي المحض، فهل يأتي التضييق على الإسلاميين بالفعل في إطار التماهي مع سياسة الإمارات والسعودية ومصر منهم؟ ربما يكون الرئيس عزيز هو المواطن الموريتاني الوحيد الذي يعلم، وإن اتسعت الدائرة فقد لا تتجاوز حاشيته ومقربيه.