الأيام العالمية.. الثقافة الافتراضية الوليدة بموريتانيا

روج كثيرا لخير جليس في الزمان منذ العام 2002، وصارت رباعيتا “كاف” نشيد الكتاب المغَنَّى آنذاك، على كل لسان، بل لعلها تجاوزت إلى حدود المثل، أو العبارة التي يمكن استخدمها في سياقات مختلفة وتؤدي معنى أبلغ من المعنى المباشر، فعلى غرار: وراء الأكمة ما وراءها، خفي حنين، الخلاف لا يفسد للود قضية، مربط الفرَس، السباحة عكس التيار؛ باتت بنفس المنزلة: “أهيه وأهيه املي.. والذاك يوحل في اكتابو”.

وارتحل معاوية بن سيد أحمد، وجاءت أحكام أخرى تعددت شخوصها واتحدت مبانيها، وغاب من معانيها المعنى الذي كسبه الكتاب والمنزلة التي احتلتها دور الكتاب، وحلت عبارات أخرى محل الرباعيتين المشار إليهما، وحل الأمل محل الكتاب، فكأن الواقع تلا قول الله تعالى: “ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ”، وظهرت عملية أمل وشباب الأمل ومثلث الأمل.. وأخيرا الأيام العالمية التي تنم عن أمل مفقود أو موعود.

ومثّل الأرضيةَ المناسبة لهذه الثقافة والأمل المستفهم حوله، موقعُ التواصل الاجتماعي فيسبوك الذي يمكن القول إن بدايات ظهوره الفعلي في موريتانيا تعود إلى العام 2009، وإن انتشاره جاء متأخرا عن ذلك ثلاث سنوات، ولقد صنع ظاهرة مائعة تنطبق عليها أوصاف متعددة، فهي يمكن أن تحمل صفة الوعي ونقيضه اللاوعي، ويمكن أن تتصف بالحضور في الشأن العام كما يمكن أن ينطبق عليها البعد عن الشأن العام إذ تغوص في النظري وتبتعد عن التطبيق، وعلى نقيض من ذلك أيضا يمكن القول إن هذا الغوص مؤثر، فأنتم في متعارضي “الواقع” “الافتراضي”، ومتناقضي الأيام “العالمية” في “موريتانيا”.

تميزت الأيام العالمية بموريتانيا بجملة من الخصائص، يمكن أن تشكل محاور لأي خوض في هذا الموضوع، فهي تركز غالبا على الصور، التي تحضر فيها الصيرورة، وتستدعي التهكم، وتستقطب المجاملات، رغم تقييد النظم الاجتماعية للمرأة التي عادة ما تفرض لنفسها الميزة الأخيرة، كما لا يمكن الحديث في موضوع ذي صلة بـ”العالم الافتراضي” في موريتانيا، دون الإشارة إلى موضة الهاشتاقات وحضور الجوانب الثقافية والسياسية والاقتصادية فيها، كما سيكون مهمًّا التمعن في نوعية الشخصيات التي تشارك في هذه الأيام “العالمية المحلية” وتنشط الهاشتاقات.

  • التركيز على الصور

ركزت جل الهبات الافتراضية المتفاعلة مع يوم عالمي أو هاشتاق، على الصورة، فلا يخفى حضورها، في اليوم العالمي للابتسامة الذي ينشر فيه المشاركون صورهم وهم يبتسمون، واليوم العالمي للصور القديمة الذي يلبس فيه الفيسبوك جبة من الصور رديئة الجودة، كما يمثل وسم #صورني_وأنا_ساهي جانبا آخر من جوانب هذا المحور، وأخيرا تخليد العشرية الذي يبدو أنه موضة هذا العام.

  • الصيرورة

تظهر هذه الصور غالبا  الصيرورة والتحول المستمر الذي لا يتوقف عنه هذا الكون من حولنا، وفي ذلك مواعظ جمة ونذر بالزوال الحتمي، كما أن فيه فضحا لنفاق الحياة ومن في الحياة، فصورتك قبل عشر سنين واعظة لك بأنك تتقدم نحو الهاوية، وصورتك اليوم منافقة تكاد تقول لك إنك لابث في الحياة أحقابا، هذا ما يمكن أن يستنتجه أي شخص سوي التفكير، على فطرته الذهنية.

  • التهكم

توضح التعاليق المرفقة بأغلب الصور سواء الحديثة أو القديمة مستوى كبيرا من التهكم، على غرار عبارات “حضرتنا قبل عشر سنوات”، وتبرير السوء الحاصل في الصورة بالسهو في هاشتاق “صورني وأنا ساه”، فضلا عن التنبيه على ما في الغيبة عند نشر أغلب الصور كما في اليوم العالمي للابتسامة، وهو في الحقيقة يوم عالمي للتكشير “التكشاش”.

  • المجاملة

من المُسلّم به أن الإنسان خلق في أحسن توقيم، لكن من المسلّم به أيضا أن الله فاضلَ الناس في الأرزاق، فمنهم من رزقه جمال الخَلْق ومنهم من عوضه منه العلم أو الخُلُق وجعله دميما، ومنهم من اجتمعا له أو حرمهما معا.. وهو ما يجعل أغلب التعليقات التي تحمل عبارات من قبيل “وني”، الله يحفظك، وخيرت، عبارات مجاملة، فقد يكون التعليق الحقيقي –لولا وازع الخُلٌق-: وجعل منهم القردة والخنازير.

  • تقييد المرأة

سنت الدولة الموريتانية عددا من القوانين من أجل تعزيز دور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية على غرار الكوتا السياسية وقانون الكراهية الأخير الذي يحظر “التمييز ضد الجنس”، وحاولت سنّ المزيد كـ”قانون النوع”، لكن قيود المجتمع ظلت غلابة، فالعرف هو أكثر القوانين احتراما على هذه الأرض من مملكة التكرور ودولة غانا إلى دولة المرابطين وعهد السيبة ونظام الأمراء ووصولا إلى الدولة الموريتانية، وهو ما انطبق أيضا على حضورها في الأيام العالمية والهاشتاقات التي طغى عليها طابع الذكورية، ففي المسيرات الملبية لنداء هاشتاق مثلا، غالبا ما تجد هناك بين عشرات الرجال امرأة واحدة.

  • موضة الهاشتاقات

على خلاف المعهود من الوسوم في العالم الافتراضي، وهو إطلاق الحملات الإعلامية ضد أو مع، فإن الوسم في موريتانيا “الافتراضية” يستخدم لأدنى سبب، فيستعيض به البعض عن الإشارة إلى صفحة صديق عند العجز فنيا أو اضطلاعا، ويستخدمه آخرون فقط من أجل الاستخدام، لكن الوسم مع كل ذلك استطاع في موريتانيا الافتراضية أن يخلق هيئات شبابية قائمة على الأرض (#محال_تغيير_الدستور) ويطلق حراكات احتجاجية تستمر لأسابيع #ماني_شاري_كزوال، وحملات شعواء تضر بشركات هي الأهم في مجالها في البلاد #خلوها_تفلس، وللصور والأيام العالمية حضورها: #اليوم_العالمي_للابتسامة #صورني_وأنا_ساه.

  • حضور الثقافة والتراث

يكاد يكون الفيسبوك الموريتاني في عمومه خاليا من ثقافة وتراث البلاد، فسوى بعض الصور التي ينشرها بعض المدونين عن حقبة الاستقلال، والمعطيات التي تصاحبها أحيانا عن الشخصيات والأحداث التي واكبت تلك الحقبة، يمكن القول إن الفيسبوك الموريتاني تائه من حيث المحتوى لا هوية أصيلة له، فأكثر هاشتاق أصالة مما حضرني وأنا أكتب هذه الأسطر هو #مرجن_خاو، و”المرجن” (القِدر) نفسه حديث نسبيا فقد سبقته “الطنجرة”، وقد غلبت عبارات وافدة من قبيل “قبعتي لك” رغم محاولة البعض حَسْنَنَتها بـ”أضع لثامي لك”، وضايقت “أعجبني” الفيسبوكية عبارتي “هح، أسكي”، كما استبدلت عبارة “اخلُمَّك” بعبارة “يمثلني”.

  • الحضور السياسي

برز في الفيسبوك الموريتاني وفي هاشتاقاته الجادة وتلك الهازلة، حضور السياسة، فإذا ما نظرنا من زاوية الجد فإن موريتانيا الافتراضية استبدت بموريتانيا الصفيح والأحياء الشعبية خلال الانتخابات الأخيرة، وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى أن الصورة أكثر حضورا من الهاشتاق وأكثر حضورا حتى من البرنامج السياسي، فقد تبارى المترشحون في الانتخابات الأخيرة في الصور أكثر من البرامج شبه الغائبة، كما لا يخفى –إذا ما نظرنا من الزاوية الهازلة- حضور لافت للسياسة في محتوى الفيسبوك الموريتاني الهازل على غرار هاشتاق #من_لم_يتزوج_تواصلية_عاش_أعزب.

  • الحضور الاقتصادي

وحضر التردي الاقتصادي بقوة هو الآخر في محتوى موريتانيانا الافتراضية، فأيديولوجيا “بلد غني وشعب فقير” برزت من خلال أغلب الوسوم المتداولة على الفيسبوك خلال السنوات الأخيرة، وهذه عينات ونماذج: ماني شاري كزوال، مكطوع انعالة، اخلين بين البطالة، مرجن خاوي، حظرون توغد الكراهية.. إلخ، حمى مزمنة تنتظر الغاز الموعود الذي هو أمل تنتظره جحافل العاطلين عن العمل، والذي هو موسم نهب جديد أيضا تنتفخ فيه بطونٌ أكثرَ وتتسع الهوة أكثر بين الثلة المتحكمة والسواد الأعظم الفقير من منظور فاقدي الأمل.

  • البعد الاجتماعي والنفساني

عند ظهور كل وسم لحملة جديدة أو انطلاق يوم عالمي جديد، لا بد أن تلاحظ سابحين عكس التيار، أخذوا لأنفسهم مكانة نخبوية تخولهم أن يلعبوا دور الشرطي الأخلاقي للفيسبوك، فتراهم يلجون نقد الجديد الوليد من باب ومن غير باب، لكن الطريف في الأمر أنك سرعانما تجد بعضهم يشارك في موضة هذه الأيام العالمية الغريبة، التي غالبا ما تقتصر على المجتمع المحلي، إلا في مرات عديدة كتحدي العشرية الحالي، والذي شاركت فيه سوق العاصمة نواكشوط (صورتا السوق القديمة 2009 – والسوق الجديدة 2019) وشارك فيه وزير الخارجية الإيراني بصورتين من تغريدة لمسؤول أمريكي 2009 وتغريدة له 2019.

وتبقى الظاهرة الافتراضية الموريتانية متقيدة بالقيم الاجتماعية للموريتانيين، عاكسة لنفسياتهم التائقة إلى الجمال، فكأن شعب موريتانيا الافتراضية قائل: “إذا لم أجد الجمال في البنى التحية من حدائق خلابة ومن منتزهات ومن شوارع وأرصفة جميلة ومن مبان شاهقة ومن طفرة اقتصادية وفرص عمل عند منتهى الأحلام، فلْأجد ذلك الجمال والمتعة في صورتي الشخصية فأنا إنسان خلق في أحسن تقويم إن كان واقع بلدي ليس أحسن واقع البلاد”.

محمد محمود ولد خوي

أحد, 20/01/2019 - 11:52

          ​